في غرفة، لا تتجاوز ثلاث أمتار، تتمدد الشابة العشرينة "شيماء"، تحت لحافها الأسود على كومةِ من الأفرشةِ المبعثرة، واضعة على جانبها مكتوباتها، ورسوماتها الحزينة.
"شيماء" وهي يتيمة الأبوين، تعيش مع أسرة عمها المكونة من ثلاث ذكور وفتاتين. بدأت القصة عندما وصلت "شيماء" رسالة تهنئة بالعيد من رقم غريب، تقول لكاتب التقرير:"عرفته بنفسي وعرفني بنفسه، شاب عشريني من محافظة بعيدة عنا، ارسلي صورته، وكان وسيم جدًا، استمرت العلاقة لمدة شهر لا أكثر، كنا نتحدث فيديو أكثر الليالي، ذات يوم طلبني -المبتز- رصيد؛ اعتذرت له وأخبرته بأني يتيمة يكفلني عمي ولا أملك حاليًا أي مبلغ مالي، لكني سأحاول، بعد المغرب أخبرته بأني لم أجد مبلغ كي أحول له رصيد، استلم الرسائل بعد ربع ساعة من ارسالها". تكمل بحسرة
"أرسل رسالة يقول فيها "حسبتك بنت ناس طلعتي جبانة، الآن بدأت الحرب بيننا، أرسل لي فيديو مسجلًا لمكالماتي، واعترف بأنه اسمه غير الاسم الذي قال لي به وأنه يعرفني جيدًا وأخذ رقمي من الحافة".تواصل
"لم استوعب ما اقراءه بصراحة، وجه آخر خلف شاشةالجوال، وقلبي المنكسر خلف الشاشة هو الآخر".
تتابع
"طلب مني الخروج لوحدي، وأن لم اخرج؛ قال لي راقبي جوالات عيال عمك، معك مهلة لساعة الثامنة مساء. تضيف
لم أتخيل سوى فيديو يوصل إلى عيال عمي، تهزات أكثر من مرة أن أسرق جوالاتهم واكسرها، لكني لم أستطيع. حسمت أمري على الانتحار، دخلت الغرفة، وربطت الحبل بالمروحة، لكني صحت بعالي صوتي، وانقذوني، وانا اركض أنفاسي الأخيرة، ارسل الفيديو إلى عيال عمي من رقم غريب، مع عبارة "شوفو بنتكم" لكنه لم ينشره للآخرين، لقيت إهانات وتعذيب، تم نزع أظافري، وحلقوا شعري، وطردوني لبيت خالي".
تقول "فاطمة" (42عام) -وهي خالة الضحية- إن "شيماء" تعاني من حالة نفسية وتوحد، وأنها تبكي أكثر الأوقات، ولا تتحدث إلا بالقليل، وهي لا تخرج من الغرفة إلا بالنادر، ويرتعش جسدها كلما رأت هاتفًا محمول".
القصة السابقة "اختصارا" لواقع مؤلم تعيشه "فتاة" في عمرِ الزهور، مكسورة خلف شاشة بصمتٍ مخيف، وهي إحدى ضحايا الجرائم الرقمية، إلا أنها ليست الوحيدة، بل هي قطرة من بحر يفيض بالمعاناة خلف الفضاء الرقمي
جرائم مرعبة ومجتمع فقير الخبرة والقوانين
أسباب كثيرة جعلت اليمن من الدول الأكثر فقرًا لتشريعات والاستراتيجيات الشاملة لمكافحة الجريمة الرقمية؛ الانفلات الأمني، وغياب القوانين، وضعف التشريعات، الحرب والبطالة، والمجتمع الذكوري وتهميش مكانة المرأة.
ومع التطور الهائل في عالم التكنولوجيا، ودخولها في شتى مجالات الإنسان، وقدرتها على نقل وتلقي المعلومات من مكان إلى آخر دون جهد ولا تكلفة. فوائد جمة حصرتها التكنولوجيا، إلا أنه لا أحد ينكر بأن هذه التقنية العصرية أصبحت سلاح قاتل في أيدي الكثير يهدد حياة الكثير.
ضحايا واعترافات
في 25اذار/مارس من العام 2020، قُتلت "حنان" (19عاما)- من أبناء محافظة "لحج"على يد أخاها رميا بالرصاص؛ بسبب انتشار صورتها بين أوساط "المخزنين" من قبل صديقها الذي ابتزها بدفع مبلغ مادي ضخم، حيث انتهت المشكلة دون تدخل أي جهة أمنية أو الإفصاح عن الجريمة باعتبارها قضية شرف تهم الأسرة.
بالمأساة نفسها تروي الناجية "زينب"لسكوب 24، قصتها مع الابتزاز قائلة: " تواصل معي ذات مساء، عبر المسينجر، وكان يمتلك بروفيل لشاب جميل في صفحته، اوهمني بأنه شاب وأنه صاحب الصورة، اعجبت به وتعلقت به كثيرا، تواصلنا ووقعنا في المحضور وارسلت له صوري، اتفقنا على مقابلة واقعية، حدد المكان والزمان، تفأجات بمحدثي خلف الفضاء الرقمي بأنه أربعيني من الطبقة السمراء "خادم" انصدمت مما أراه، حاولت الهروب لكنه قال لي لي أن لم تأتين معي سوف أنشر كل صورك عبر الانترنت، وقال بانه يمتلك أكثر من عشر حسابات وهمية، خفت وذهبت معه، وطلب مني الولوج بعلاقة جديدة.
أما"خولة" لم تكن بمنأى عن سابقتيها -حنان وزينب - وتتساءل هنا "لا أعلم كيف أتى برقمي وصورة خاصة لي؟، لكن الحادثة كانت بعد ذهابي إلى محل صيانة الجوالات بيومين، تواصل بي وارسل لي الصورة، وأخبرني بأنه حصل عليها بالصدفة، وطلب أن نجتمع في سيارته، طلب مني التقاط صورة لنا كذكرى يحتفظ بها، سمحت له بالتقاط الصورة، مرت الأيام على اجتماعنا لكنه أخذ أن يطلب مني أن نجتمع أكثر الايام ويهددني بالصورة، جعلني أدخل في دوامة من الوساوس والقهر، لكن القصة انتهت عندما أخبرت صديقي "علي"
أميات تحت الجرائم الرقمية
تقدمت إلى كاتب التقرير، متلفتة بكل الاتجاهات، وكأنها تبحث عن شيء مفقود، مفزوعة، "أحس وكأن صورتي تظهر هناك" تقول "فائزة" (47 عاما)، تقترب أكثر وتهمس لكاتب التقرير " المشكلة بأني إنسانة أمية لا اعرف أقراء ولا اكتب، وأنا أم لأربع أطفال، زوجي خارج الوطن وكان يتواصل معي بمقاطع صوتية، وعندما يكتب لي كتابة أستعين بأي أحد ليقراء لي، مرة طلب مني زوجي أن أتحدث معه صوت وصورة، ذهبت إلى محل الصيانة لتثبيت تطبيق "إيمو" بعد أسبوع تواصل بي رقم غريب يقول لي بأنه زوجي وأن رقمه الأول توقف، وفعلا زوجي طوال اليوم لم يتواصل بي، دخل معي بمحادثات الزوجة لزوجها وطلب مني صور وارسلت له.
تواصل "المبتز قام بتهكير رقم زوجي وإغلاق الوتس عليه بعدما أخذه من جوالي، ودخل يراسلني على أساس زوجي، وفي الصباح اعترف المبتز بأنه حصل على رقمي في مجموعة وطلب مني مبلغ مالي، حولت له مرتين أما المرة الثالثة أخبرته بأنه لا يوجد معي مال، طلب مني مبلغ 1000ريال سعودي، وأن امسح رقمه
تقول المهندسة "تهاني عبدالله جعفر": "المرأة الأمية هي الفريسة السهلة التي تسلم نفسها للمفترس بنفسها، فإرادة من دون علم تشارك المرأة أشياء تودي بها إلى الهلاك في ظل مجتمع لا يرحم، يعتبر المرأة محل خطأ تتحمل مسؤولية ما تتعرض له بكل الظروف، وبما أنها أمية فهي لا تقدر على تأمين حساباتها ولا حمايته؛ مما يجعلها تتنقل بجوالها بين محلات الصيانة وأولاد الجيران؛ لعمل البريد الالكتروني أو لتثبيت الوتساب، أو تثبيت الإيمو، فتكون أكثر عرضة للابتزاز والاستغلال.
حضور المجرمين على الإنترنت.. ومصدر الرزق الوحيد
لم يكن التطفل والاعتماد على الغير أمرا خاصًا بالحيوانات فقط، فالوضع الاقتصادي، والبطالة التي تمر بهما البلاد؛ جعلت من الشباب اتجاهات منحرفة، يتخذها الكثير مصدرًا للعيش على حساب الآخرين بدون وجه حق.
يروي "محمد" 27عام -وهو أحد مجرمين الإنترنت الذين تابوا مؤخرا من ممارسة الجريمة الرقمية- "لسكوب 24"قصته مع ممارسة الجريمة الرقمية باعتبارها مصدر رزق للكثير" توجد أعداد كبيرة من الرجال وحتى النساء يتخذون الإنترنت مصدر عيش ورزق فأنا لأكثر من أربعة سنوات لم اقوم بشحن خطي برصيد ابدا، بل الضحية هي من تشحن لي الرصيد؛ بعد استغلالها. أنا أكثر ضحياتي رجال أراسلهم بأسماء بنات، حيث إني أمتلك صور لبنات عربيات أوهم الضحية بأنها صورتي". يواصل
"أكثر عمليات البتزاز تتم عبر روابط مهكرة لحسابات غير مأمنة، وضحايا يجهلون استخدام الهاتف، وحسابات البريد الإلكتروني الذي كنت احصل عليها بدخولي على الضحية من فيسبوك فاوهمه بأن هناك مسابقة أو تأمين حساب، وهذا الذي يجعل الابتزاز يتجاوز الحدود الجغرافية البعيدة". يتابع
" تتعبنا الحسابات المحققة بخطوتين بصراحة، لكني اخترقت كثير من الهواتف وخاصة من خارج اليمن، وأخر الضحايا معلم سوداني، أخذت رقمه وحسابه، وراسلتني حبيبته ورسلت صورها، تحسب أني صديقها السوداني، طلبت منهم مبلغ( 80$) وارجعت لهم الرقم والاختراق تم عن طريق البريد الإلكتروني".
في هذا الصدد تؤكد مدربة الأمن الرقمي"زينب القاضي إن أكثر النساء يجهلن تأمين حساباتهن وتعبر بحديثها لسكوب 24 "الكارثة عندما وجدت شريحة كبيرة من النساء أميات ومتعلمات لا يملكن أي خلفية عن تأمين حسابتهن، ولا صيانة هواتفهن، بل يتم توجهن إلى محلات الصيانة والمهندسين؛ عند أي عطل بالهاتف أو تثبيت تطبيق جديد". وتوضح القاضي
"يقوم المهندس بالهندسة داخل الهاتف، منوها للضحية بأنه يقوم بإصلاح المشكلة، يتم ابتزاز النساء من خلال البريد الإلكتروني، وتصوير كود الوتساب.
كما لفتت المهندسة أنيسة السلامي- وهي مدربة أمن رقمي، وصاحبة محل صيانة جوالات- إلى معلومات مهمة لسكوب 24، عندما يتم شراء هاتف جديد يطلب المهندس من المرأة أن يضبط لها التعريب واللغة، وعندما يقوم بضبط التعريب واللغة إما أنه يحط له برنامج تجسس أو يقوم هو بعمل الحساب فينسخ كلمة المرور أو يعمل مزامنة".
ونوهت السلامي بأن 70% من النساء يتم ابتزازهن عن طريق الإيميل والبريد الإلكتروني، حيث إن الكثير من النساء يجهلن استخدام الهاتف وإنشاء الحسابات؛ السبب الذي يجعلهن يذهب إلى المهندسين؛ حيث يقوم بالربط والمزامنة ومن هنا تبدأ عملية الابتزاز على حسب قولها.
وحذرت السلامي بتصريح لسكوب 24 "إن سنة 2023 هي أكثر السنوات التي يحدث فيها ابتزاز إلكتروني، حيث توصلها باليوم من ثلاثة إلى أربعة حالات تستنجدها المساعدة، ناهيك عن الشكاوي التي يتم استقبالها عبر رقم الشكاوي الخاص بمحل الصيانة التابع للمهندسة".
وترى السلامي " بأن أكثر الابتزاز يحدث عندما يوصل للضحية رابط أو رسالة يحذر الضحية عبره بأنه في أحد ما يحاول إختراق الهاتف ملحوق برسالة لتأمين حسابك اتبع الخطوات التالية مما يجعل الضحية تتبع التعليمات التي يتم اختراق هاتفها عبرها".
نصائح وحلول آمنة
ومع كل هذه الجرائم التي تتفاقم تتشكل لدى المجتمع هواجس كبيرة يتقي بضلالها على الفتيات كونهن الضحايا، ما يستدعي وجود سلسلة خطوات وحلول آمنة تسهم في التقليل من هذه الجرائم.
وفي هذه الجزئية تنوه مدربة الأمن الرقمي "زينب القاضي" بأنه يجيب على النساء عدم الثقة بأحد مهما كلفهن الأمر، ويجب عمل التحقق بخطوتين لتطبيقات التواصل الاجتماعي، وعدم السماح لأي شخص غريب بدخول الوتساب فقد يتم تصوير كود التشفير والتجسس على الضحية.
بدورها طالبت السلامي منظمات المجتمع المدني والجهات المعنية بالأمر بتفعيل دورات الأمن الرقمي لجميع النساء المتعلمات والأميات، في المدن والأرياف؛ لارتفاع نسبة الأمية الرقمية بشكل كبير جدًا، وأن الجهل في استخدام وتأمين الهاتف يعرض نساء كثر للجريمة الرقمية؛ التي تكون عواقبهامدمرة على حسب قولها.
ومع ملامح الندم التي ارتسمت على وجه "محمد" تحسرًا على ارتكابه أعمال غير شرعية حولت حياته إلى معاناة أكبر من معاناة ضحياه، ويطالب باعتزال هذا العمل الإجرامي؛ لكونه تدخل في خصوصية الآخرين يجب أن يتعاقب مرتكبه أمام الجميع.على حسب قوله.
وختم "محمد" حديثه بعبارة :" (وعند الله تجتمع الخصوم).
بعد عام من جريمة الابتزاز، لا تريد "شيماء" -وهي مازلت تعاني آثار الصدمة- أن تتعرض أي فتاة للابتزاز، وتختم حديثها لسكوب 24 "تلك الحادثة حقًا كسرتني، لكنها كانت تجربة وتعلمت منها، لكني لا أريد أن تتكرر الجريمة لغيري من النساء، ونصيحتي للفتيات عدم الثقة بأحد، وأن لا ينجرن خلف شباك الرقمية في ظل مجتمع لا يرحم ولا ينصف النساء".
انتهى التقرير بالاشارة إلى أن الأسماء الواردة فيه مستعارة حفاظاً على الخصوصية