من صور تعقيدات المشهد اليمني أن تبرز خطابات تتوعد العدو البعيد بالموت في حين يرزح أبناء البلد تحت وقع الموت البطيء أو المباشر نتيجة الأوضاع الإنسانية الصعبة.
من بين هذه الصور إصرار زعيم جماعة الحوثي على الدفع بخيار الحرب ضد اليمنيين في حين يعد الفلسطينيين بنصرتهم وإقامة دولتهم وقصف إسرائيل وتدميرها "بالتنسيق مع محور المقاومة" الذي يفاخر بانتمائه إليه.
وفي خطاب له أول من أمس، هدد زعيم الحوثيين بالدخول في أحداث غزة وقصف إسرائيل بالصواريخ والطائرات المسيرة في حال حدوث أمرين، أولهما تدخل الولايات المتحدة الأميركية بشكل مباشر في الحرب، والثاني تجاوز إسرائيل الخطوط الحمراء، دون أن يوضح ماذا يقصد بالخطوط التي حذر إسرائيل من تجاوزها في حين جاءت آلتها العسكرية على كل معالم الحياة هناك، وهو ما اعتبره مراقبون مزايدة تستجدي استعطاف مموليه ومحاولة متجددة تستهدف شحن أتباعه بخطابات البطولات التي تحمل أهدافاً تتعلق بمشروعه التوسعي في البلاد على حساب معاناة أهله ومصالحهم.
لم يكن خطاب الحوثي جديداً على أذهان اليمنيين الذين كثيراً ما اعتبروه مزايدة سياسية ألفوها وملوا منها، ولكن لأنه يأتي في وقت يعاني فيه غالبيتهم ويلات الحرب المدمرة التي فرضتها جماعته، في مقابل رفضه دعوات السلام التي بذلها الإقليم والمجتمع الدولي على مدى السنوات الماضية حتى عندما اقتربت تلك الجهود أخيراً من إيجاد صيغة واعدة لسلام مستدام، قبل أن تعود حليمة الجماعة لعادتها بقصف القوات البحرينية المرابطة جنوب السعودية قبل نحو أسبوعين.
إلهاء الرأي العام ومغالطاته
خطاب الحوثي الذي تضمن اعترافاً بالتنسيق والتبعية لإيران ومحور المقاومة التابع لها "نصرة لغزة وأهلها"، تجاهل الأوضاع اليمنية التي تزداد تعقيداً، من ثم تزايد المخاوف من حال التشظي والانهيار التي تتهدد البلاد برمتها.
وفي حين انساق أتباعه وآلتهم الإعلامية وراء مزاعمه بوعي أو دون وعي امتداداً لمزاعم سابقة تتحدث عن مساعي جماعته "تحرير القدس"، شن اليمنيون موجة سخرية امتلأت بها منصات مواقع التواصل الاجتماعي والتجمعات العامة لم تخلُ من النكات التي تعقد مقارنات عابرة تشير إلى الحال الصعب الذي يعيشه الناس في المناطق التي تقع تحت سيطرة الميليشيات المدعومة من إيران.
واعتبر مسؤولون ومراقبون خطاب الحوثي محاولة متكررة لإلهاء الرأي العام وحرف انتباه الشارع وتخديره بادعاء بطولات وهمية وتصوير نفسها بالورقة التي أضحت ذات تأثير مهم في مشهد الأحداث والاستفادة القصوى من الأحداث الفلسطينية لصالح مشروعها.
يرى المحلل السياسي محمود الطاهر أن جماعة الحوثي هددت أميركا وإسرائيل في حين تقوم الأخيرة بمحو معالم غزة وزعيمها ينتظر حتى يتم تدميرها، ثم لن يعدم الحجة. ويضيف، "نعرف مزايدات الميليشيات وزعيمها منذ الحروب الست، فهم يقولون كلاماً يدغدغون به مشاعر أتباعهم لأجل التكسب والمتاجرة السياسية بهم وزجهم في محارق الموت خدمة لربيبتهم إيران".
ويقول الناشط السياسي همدان العليي إن الحوثيين قتلوا مئات الآلاف من اليمنيين بذريعة العمالة لأميركا وإسرائيل، وعندما طلب منهم اتخاذ موقف مما يجري في غزة دسوا رؤوسهم في التراب وتحججوا بأنهم ينتظرون تدخلاً مباشراً من أميركا. وأضاف في تدوينة له على موقع "إكس"، أن "الحوثيين كانوا يعاقبون اليمنيين لعدم المشاركة في أنشطتهم المتعلقة بفلسطين التي يهدفون من خلفها لتحقيق أهداف خاصة لسلالتهم، ووصل بهم الحال إلى وصف اليمنيين بأنهم صهاينة عرب".
يخلص إلى أن خطابات الحوثي اليوم باتت "محل سخرية واستهزاء اليمنيين، ولا يوجد حالياً من يصدق هذه الخطابات إلا المتعصبون للجماعة أو أصحاب المصالح الشخصية أو المغفلون"، على حد قوله.
التمسك بأسباب الدمار
وإزاء استمرار السياسات الحوثية، دعا رئيس مجلس القيادة الرئاسي رشاد العليمي إلى اصطفاف وطني من أجل الخلاص ممن وصفهم بـ" الإماميين الجدد"، وصولاً إلى دولة ضامنة للحقوق والمساواة.
وقال العليمي في خطاب عشية الذكرى الـ60 لثورة 14 أكتوبر (تشرين الأول) 1963، ضد الاستعمار البريطاني في جنوب اليمن "إن طريقنا إلى الخلاص من هذه النبتة الشيطانية (في إشارة إلى لحوثيين) يتطلب مزيداً من الاصطفاف الوطني، لأن الإماميين الجدد هذه المرة يستحوذون على مقدرات الدولة ومؤسساتها التي بنيت على مدى 60 عاماً"، على حد تعبيره.
بالإشارة إلى ما توصلت إليه جهود السلام التي شهدت زخماً إقليمياً ودولياً على مدى الأشهر الماضية لدفع جميع الأطراف نحو تفاهمات تفضي لحل سياسي شامل ومستدام للأزمة اليمنية، أشار رئيس مجلس القيادة إلى أن جماعة الحوثي "رفضت كل المبادرات من أجل تخفيف المعاناة وتوسيع المشاركة في الحقوق السياسية والتخلي عن العنف والسلاح، وتمسكت بكل ما يمكن أن يدمر ويعمق من الانقسام والفرقة، بدلاً من أسباب البناء والنهوض والتغيير". وتطرق إلى الأحداث الأخيرة التي شهدتها صنعاء وعدد من اليمنية بعد خروج اليمنيين للاحتفاء بذكرى ثورة 26 سبتمبر (أيلول) 1962 التي أطاحت حكم الأئمة، والتي قوبلت بموجة قمع واعتقالات واسعة شنها مسلحو الحوثي في حق المحتفلين عندما "ضاقوا بمسيرات عفوية للشباب والشابات الذين تدفقوا إلى الشوارع بالآلاف وواصلوا احتفالاتهم بثورة سبتمبر تحت رصاص الميليشيات وقوتها الغاشمة".
وأمام هذا الواقع قال العليمي "ليس أمام الميليشيات سوى الاستجابة للإرادة الوطنية والسماح بالتظاهر الشعبي والإفراج عن كافة المحتجزين وتمكين مراقبي حقوق الإنسان من الوصول إلى سجونها للكشف عن مصير آلاف المعتقلين والمخطوفين في الشهر الماضي وعلى مدى سنوات الحرب بمن فيهم المناضل محمد قحطان المشمول بقرار مجلس الأمن الدولي". وأعرب عن ثقته بأن "جذوة سبتمبر وأكتوبر ستحرقهم من جديد، لأنهم لا ينتمون إليها لأن جيلاً مفعما بالأمل والحرية يخبرنا كل يوم بأنه لا يمكن القبول بغير التغيير".
المصدر / صحيفة اندبندنت عربية