تحت سماء عدن الصافية وفي ليالي رمضان الأخيرة، وبين زينة العيد الباهتة، تسللتُ إلى سوق كريتر، أقدم أسواق المدينة، لأرصد حكايات الناس البسطاء في ليلة عيد الفطر، رغم الزحام المألوف في هذا الوقت المتأخر من الليل في كل رمضان، شعرتُ بنبض الحياة ينبض في كل زاوية، بين الباعة والمتسوقين، اختلطت ضحكات الفرح بدموع الألم، في تناغم حزين يعكس واقع مدينة أنهكتها الحرب.
لمحتُ فتاة شابة تتحدث لزوجها بصوت مرتفع: "شوف امشي وانت ساكت لا تضبح بي واني هبيت لك 15 الف تشتري قات وتخزن وتقفل لقفك وتمشي وانتا ساكت". ضحكتُ في سري، لكن الضحكة علقت في حلقي عندما أدركت أن القات هو المتنفس الوحيد للكثيرين في هذه المدينة المنكوبة، رغم تكلفته الباهظة.
على بعد خطوات، لمحتُ أمًا تجر أطفالها خارجين من محل ملابس، تقول لهم بصوت يملؤه الأسى: "يا عيالي امشو تعالوا ابوكم مش تاجر مخدرات ولا قائد بحجم وطن عشان اشتري لكم بكدا اسعار غالي نار امشو امشو بندور بنحصل رخيص"، شعرتُ بغصة في قلبي، وتمنيتُ لو أستطيع مساعدتها، لكني أدركت أن معاناتها هي معاناة الآلاف في هذه المدينة.
بينما كنت أسير، سمعتُ امرأة تمازح صاحب محل تجاري: "اسمع دي الأسعار روح بيع به للي بمعاشيق وللي بجولدمور .. مو اني ابايعك على اثنين شوالي ذهب؟". ضحكتُ من قلب معها، ففي الضحك ملاذ من قسوة الواقع.
لمحتُ شابًا يمسك بيده بضع أوراق نقدية، يقول لصديقه: "قده يااا الله الفلوس دي تجيب سروال وجرم بدله وحدة بنلبسه السنة كله". شعرتُ بالحزن لأجله، وتساءلتُ كيف يمكن لشاب في مقتبل العمر أن يعيش بهذه البساطة القاسية.
في زاوية أخرى من السوق، رأيتُ رجلاً يحمل أكياسًا مليئة بالملابس والحلويات، يقول لزوجته وأطفاله: "امشي يا حرمه بغرتي بي انتي وجهالك الفلوس الي معي هكبته سنة كامل عشان اشتري لك ولعيالك كسوة العيد عادك تشتينا اوديك مطعم" ابتسمتُ، فقد رأيتُ في عينيه فرحة الأب الذي يضحي بكل ما يملك من أجل إسعاد أسرته..
بين هذه القصص وغيرها، شعرتُ أن سوق كريتر هو مرآة تعكس واقع مدينة عدن، مدينة أنهكتها الحرب، لكنها لم تفقد الأمل، مدينة تعاني الفقر والحرمان، لكنها تحتفظ بروحها المرحة، مدينة تئن تحت وطأة الأزمة، لكنها ترفض الاستسلام.
خرجتُ من السوق وأنا أحمل في قلبي مشاعر مختلطة، فرحة العيد تداخلت مع ألم المعاناة والأمل في المستقبل اختلط بالخوف من المجهول.. لكنني على يقين أن عدن ستنهض من جديد، وستعود إليها الحياة كما كانت، بل وأفضل ففي قلوب أهلها قوة وعزيمة لا تلين، وفي أرضها بذور الخير التي ستنبت يوماً ما، لتزهر فرحًا وأملاً.