ستحتفل المطربة اللبنانية فيروز يوم الخميس القادم ومحبوها بعيد ميلادها التسعين الموافق لـ21 نوفمبر في ظل الحرب التي يشهدها لبنان منذ أشهر.
ويقول المهتمون بشؤون لبنان إن أيامه الجميلة ولّت، وربما لن تعود على الأقل في المستقبل القريب، فلبنان القديم الذي كان مركزا للفن والثقافة وقبلة للباحثين عن المتعة والحياة لم يبق منه سوى الحسرة التي يثيرها في النفوس صوت فيروز، وهو يحكي عن شادي رفيق الطفولة الذي ضاع في غياهب الحرب بين فرقاء الوطن الواحد ولن يعود.
كثيرة هي المقالات والدراسات التي كتبت عن المطربة اللبنانية الكبيرة فيروز، في محاولة للوصول الى سر شعبيتها الهائلة في مختلف أنحاء العالم العربي، لكن متابعة ما كتب رغم وجاهته وتنوعه وأهميته يقود إلى الاقتناع بأن هناك سرا لا يزال مخبأ في مكان بعيد لم يصل إليه أحد، ويبرر هذا الغزو “الفيروزي” لقلوب الكثير من أبناء الدول العربية.
قد يكمن السر في التباين الواضح بين صوت فيروز الذي يمنح من يسمعه شعورا بالسلام، وبين حال بلدها لبنان الذي لم يعرف السلام التام منذ استقلاله عن فرنسا في أربعينات القرن الماضي. تباين بلغ ذروته في سبعينات القرن الماضي مع اندلاع الحرب الأهلية بين الفرقاء من قادة الطوائف، لتحرم اللبنانيين من الأمن والسلام، ومن صوت فيروز أيضا، والتي امتنعت عن إحياء أي حفل في الوطن الممزق، تفاديا لتصنيفها على هذه الطائفة أو تلك، واحتجاجا على ما يفعله المتحاربون من تقطيع لأوصال الوطن على شرف الطائفية.
يكاد المتابع لمشوار المطربة فيروز الفني يصل إلى قناعة بأن أغانيها تمثل تاريخا معاكسا للواقع السياسي المرتبك في لبنان والسائد منذ عقود طويلة
يكاد المتابع لمشوار المطربة فيروز الفني يصل إلى قناعة بأن أغانيها تمثل تاريخا معاكسا للواقع السياسي المرتبك في لبنان والسائد منذ عقود طويلة، فقد كان صوتها يقاتل في ذروة الحرب الأهلية من أجل بلد موحد في مواجهة ذرائع الانقسام التي يتحصن خلفها قادة الطوائف، كما كان صوتها قاسما مشتركا بين جنود الميليشيات، يسمعه الدرزي والشيعي والسني والماروني، وكان أيضا بمثابة وطن بديل لمن كفروا بالوطن الأصلي. وطن يحفل بالسلام والهدوء والاستقرار والطمأنينة، بدلا من الفزع والخوف والاقتتال والانقسام، المختبئين في حارات بعلبك وحاصبيا وزحلة.
لعل من المفارقات البارزة في الارتباط بين فيروز وبلدها لبنان التزامن غير المخطط بين عيد ميلاد المطربة الكبيرة الذي يوافق الحادي والعشرين من نوفمبر، وعيد استقلال لبنان في الثاني والعشرين من الشهر نفسه، لكن فيروز التي ولدت عام 1934 أكبر من بلدها بتسعة أعوام، حيث نال استقلاله عن الاستعمار الفرنسي عام 1943.
ورغم التعارض بين أغاني فيروز وواقع لبنان السياسي لم تخل العلاقة من أوجه تشابه، خصوصا على المستوى الشخصي للمطربة الكبيرة، الذي يحفل بالعديد من المآسي التي لا تختلف في جوهرها وتأثيرها عما يعيشه الوطن الأكبر، بداية من الانقسام الكبير الذي عانت منه في عائلتها خلال فترة زواجها بعاصي الرحباني حيث كانت حياتهما الخاصة حافلة بالأزمات والخلافات على عكس تكاملهما الفني، ثم إصابة عاصي الراحل بجلطة دماغية عام 1972، وأخيرا انفصالهما بعد ذلك بست سنوات، وصولا إلى أزماتها المتكررة مع منصور الرحباني عم أولادها، التي وصلت إلى المحاكم في عام 2008، ثم تكرر الأمر بعد ذلك بعامين حين أقام أبناء منصور عقب وفاته دعوى قضائية تطالب بمنع فيروز من الغناء إلى حين تسوية حقوق الملكية الفكرية للأغاني والمسرحيات التي تعيد تقديمها من تأليف منصور.
ومثلما سقط في لبنان ما يقرب من 150 ألف قتيل و300 ألف جريح ومعوق خلال سنوات الحرب الأهلية، فقدت فيروز بدورها ابنتها ليال التي توفيت عام 1988 وهي في التاسعة والعشرين من عمرها، وقيل إنها ماتت متأثرة بإصابتها نتيجة تعرض منزلها للقصف خلال الحرب التي كانت تضع أوزارها الأخيرة.
ومن التفاصيل التي يمكن التوقف عندها لفهم التباين بين المطربة الكبيرة وبلدها علاقة كل منهما بسوريا، وبينما يمكن اختصار علاقة لبنان بجارته في التوتر والصراع وعدم الراحة، تقف فيروز على جهة مقابلة بأغنيات تغنت فيها بجمال ومجد الشام، وكل حفلاتها في سوريا منذ بداياتها الغنائية في الخمسينات.
بعض الأقلام السورية الحانقة على نظام الأسد (الوالد حافظ ومن بعده الابن بشار) ذهبت إلى تفسير علاقة فيروز مع دمشق باعتبارها قائمة على سند أيديولوجي، هو إيمان الرحابنة بالفكر القومي السوري وقدرة الهلال الخصيب -كما وصفه المفكر السوري الراحل أنطون سعادة- على قيادة العالم العربي، وذهبت بعض الأقلام الأخرى إلى ما هو أبعد حين عبرت عن كرهها لفيروز لأن صوتها في أذهان هذه الأقلام يرتبط بالسلطة وكل ما له علاقة بها، فأغانيها موجودة في الثكنات العسكرية، وفي مراكز النظام المختلفة، وحتى في السجون، إلى درجة أنهم باتوا يشعرون معها بأنها من مستلزمات السلطة، ومشروع ارتبط دائما بالنظام السوري وبطشه.
حملت تلك الاتهامات قدرا غير معقول من المبالغات وحمّلت المطربة اللبنانية ما لم يكن يجب أن تحتمله، فليس ذنب فيروز أن النظام السوري قرر توظيف أغانيها لتكون جزءا من هويته الصوتية في أذهان شعبه، كما أن الغاضبين تجاهلوا في خضم غضبهم حقائق بسيطة وهي أنها المطربة العربية الوحيدة تقريبا التي غنت للشام وتغنت بها مرات عديدة دون أن تحمل أغانيها إشادة أو حتى ذكرا لنظام الأسد، الأب والابن، تصريحا أو تلميحا.
يمكن تفسير تعلق السوريين بها وأغنياتها عن الشام بأنها كانت تنظف ذاكرتهم من ربط الوطن بالنظام، مثلما كانت تفعل الأغاني الوطنية في سوريا، وبينما كانت فيروز تشدو بحب الشام، بكلمات مثل “أيا شآمُ، أهلكِ السَّماحُ، تلاقَوْا، فجَدَّدوا العُروبة، وَمرَّ في رُبوعِكِ الرِّياحُ”، كان هناك مطربون ومطربات يختزلون الوطن في شخص الأسد فظهرت أغنيات مثل “تسلم للشعب يا حافظ” و”يا حافظ يا ابن الشعب”.
يتناسى المنتقدون أن فيروز وحدها لم تغن أبدا لحاكم أو رئيس في أي بلد عربي، رغم أغانيها المتعددة عن معظم الدول، فهي غنت لمصر قائلة إن شمسها الذهب عادت مثلما غنت لشط الإسكندرية، في وقت كان فيه أغلب الفنانين يتكالبون على تقديم أغان تمجد الرئيس المصري الراحل جمال عبدالناصر وإنجازاته، وغنت للأردن “أرض العزم” ولبغداد والكويت وتونس والجزائر والمغرب، وفي كل تلك الأغنيات لم تنطق كلمة واحدة فيها تمجيد أو مدح لحاكم أو مسؤول.
تحملت فيروز في سبيل حبها للشام وأهله الكثير من الاتهامات، أشهرها ما حدث عام 2008 حين قبلت إحياء حفل في دمشق بمناسبة اختيارها عاصمة للثقافة العربية، وحينئذ تعرضت لاتهامات بلغت حد التخوين، حيث قال رئيس حزب الكتائب اللبناني وليد جنبلاط إن فيروز تخدم مصالح الاستخبارات السورية، وقال السياسي اللبناني أكرم شهيب إن من يحب لبنان لا يغني لسجانيه، في إشارة إلى السيطرة والوجود العسكري السوري في لبنان منذ عام 1976 حتى الانسحاب عام 2005.
وبلغ الأمر ببعض المواقع المحسوبة على قوى سياسية لبنانية غير متوافقة مع سوريا حد القيام باستفتاءات شعبية أفادت نتائجها برفض أغلب المشاركين فيها ذهاب المطربة الشهيرة إلى دمشق، لكن فيروز قررت الذهاب والغناء، وقالت كلمة زادت من حنق بعض اللبنانيين عليها، جاء فيها “دمشق ليست عاصمة ثقافية لهذا العام فقط، لكنها ستبقى نموذجًا يحتذى به في الفن والثقافة والأصالة للأجيال القادمة.”
لم يتوقف المعارضون لغناء فيروز في دمشق عند مسألة أنها لم تغن للأسد أو لنظامه وإنما غنت للشعب السوري وتاريخه، وأنها ظلت وفية لمبدئها الأثير؛ فنها فوق السياسة وتقلباتها. ولعل هذا من بين أكثر الأمور التي جعلتها تعيش في قلوب الكثير من أبناء الشعوب العربية دون تمييز. ووسط هذا الكم الهائل من الخلافات العربية واللبنانية على مدى العقود الماضية، بقيت فيروز مرفأ آمنا يجتمع عنده بعض خصوم السياسة