يمثل الشباب الشريحة الأكبر في التركيبة السكانية لليمن, البلد الذي يعيش أسوأ أزمة إنسانية في العالم وتدخل فيه الحرب عامها العاشر, حيث وأن السكان الذين يتجاوز عددهم 30 مليونا وفق أحدث إحصائية تقديرية, يحتاجون إلى شكل من أشكال المساعدة الإنسانية, إلا أن فئة الشباب هم الأكثر عرضة للمخاطر والاستغلال في ظل ارتفاع نسبة البطالة بفعل تفاقم الأزمة الاقتصادية في البلاد.
ومؤخرا برزت إلى السطح ظاهرة خطيرة تستهدف شباب اليمن, وتستغل الظروف الاقتصادية التي يمرون بها من خلال تجنيدهم للقتال خارج حدود اليمن, في حرب لا ناقة لهم فيها ولا جمل, وعبر صفقة وصفت بأنها "عملية إتجار بالبشر.
مصادر محلية أكدت لـ"المجهر" أن العشرات من الشباب في المحافظات الواقعة ضمن نفوذ الحكومة المعترف بها غادروا منذ مطلع أغسطس/آب الجاري على دفعات بعد تجنيدهم للقتال في روسيا من قبل وسطاء محليون في اليمن وعمان.
استقطاب موسع
يقوم وسطاء محليون أو ما يطلق عليهم "سماسرة" باستقطاب مئات الشباب في المحافظات الواقعة ضمن نفوذ الحكومة المعترف بعد إقناعهم بالحصول على مبلغ 3 آلاف دولار شهريا مقابل تجنيدهم لصالح روسيا, ويتلقى المجندين وعودا بمنحهم الجنسية حال وصولهم إلى هناك, يقول مصدر مطلع لـ"المجهر".
ويضيف الذي فضل عدم الكشف عن اسمه, أن العملية تتم من خلال تسجيل أسماء الشباب في كشوفات وعند وصول الموافقة من الوسطاء في سلطنة عمان يدفع كل شخص يرغب بالذهاب للتجنيد في روسيا مبلغ 200 دولار للعميل (السمسار).
ويشير إلى أن من غادروا تم إيهامهم بأنهم سيعملون ضمن الأمن الروسي الداخلي على أن يتلقى كل مجند منهم 10 ألف دولار لحظة وصوله منها 3 آلاف للشركة الوسيطة في عمان, فيما يحتفظ المجند بالمبلغ المتبقي.
ويعبر المصدر عن خيبة أمله من توسع هذا النشاط قائلا: "السماسرة يستغلون الظروف المعيشية للشباب ويسوقوهم إلى المحرقة في أوكرانيا من خلال بيعهم الوهم, هذه جريمة إتجار بالبشر ولا بد من إيقافها قبل استنزاف شبابنا".
ويؤكد "لابد من قرار صارم تتخذه السلطات الحكومية يرافقه اتخاذ ما يلزم من الإجراءات القانونية بحق كافة المتورطين بهذا النشاط المشبوه, حتى لا تصبح ظاهرة يتحمل الجميع تبعاتها الخطيرة".
أدلة دامغة
حصل "المجهر" على أدلة دامغة تثبت وصول شباب يمنيين إلى معسكرات في روسيا, بالإضافة إلى صور لتأشيرة سفر والعقد الموقع بين الشركة الوسيطة في سلطنة عمان والمجند, الأمر الذي يكشف خطورة هذا النشاط المثير للشكوك والتساؤلات.
ويتضمن العقد الموقع من قبل المجند, توكيل كامل للشركة للقيام مقامه أمام كل الجهات الرسمية وغير الرسمية وما يخصه من معاملات التوظيف في الدولة الروسية سواء في المجال العسكري أو الأمني أو المدني.
كما تلتزم الشركة الوسيطة بـ "متابعة كافة الحقوق والامتيازات للطرف الثاني وفقا لما يتمتع به أي مواطن وفق القانون الروسي", دون أن يتضمن بنودا أخرى حول ما إذا تعرض المجند للقتل أو المهام التي سيكلف بها.
وفي الصورة التي اُلتقطت في السادس عشر من أغسطس/آب الجاري داخل أحد مخيمات التجنيد التابعة للجيش الروسي يظهر خمسة شبان يمنيون يرتدون زيا عسكريا ويحملون السلاح, اثنان منهم لا يضعان أقنعة الوجه, هما (س.ز) و (ح.م).
ومن خلال التعرف على الشابين تبين أنهما من مدينة تعز, وآخر تواجد لهما كان في العاصمة العمانية مسقط في صورة جمعتهما وتم نشرها على منصة التواصل الاجتماعي "فيسبوك" في التاسع من الشهر الجاري, وبفارق زمني أسبوع (بين الصورتين).
مصادر مقربة من الشابين (س.ز) و (ح.م) أفادت لـ"المجهر" أن أسرتيهما تعتقدان أنهما في عمان لغرض العمل, فيما استبعدت المصادر أن تكون الأسرين على دراية بذهاب الشابين إلى روسيا لغرض التجنيد.
بصمة حوثية
مصدر أمني في وزارة الداخلية بالحكومة المعترف بها, أفاد بأنه من خلال تتبع الأجهزة الأمنية في المناطق والمحافظات المحررة لقضية استقطاب الشباب وتجنيدهم في روسيا, تبين من خلال البحث والتحري وقوف جماعة الحوثي الإرهابية خلف هذا "النشاط المشبوه".
وكشف المصدر في حديثه لـ"المجهر" عن المحرك الرئيسي لعملية التجنيد من مقر إقامته بسلطته عمان من الخلال التنسيق مع وسطاء محليين (سماسرة) في المناطق المحررة ومناطق سيطرة المليشيا, موضحا أنه يدعى "عبدالولي عبده حسن الجابري" وهو عضو في برلمان الحوثيين غير المعترف به, ويشغل منصب قائد ما يسمى "اللواء "115 التابع للجماعة.
وأكد المصدر أن الأجهزة الأمنية الحكومية تستشعر خطورة نشاط استقطاب وتجنيد الشباب خارج حدود البلاد ووجهت الوحدات التابعة لها بالتحرك العاجل في الأماكن التي تنشط فيها مثل هذه الأعمال, لافتا إلى ضبط عدد من المتورطين في محافظة تعز.
وأضاف "رغم هذه الجهود والتحركات الأمنية للحد من هذه الظاهرة، إلا أن هناك كثافة في الإقبال وهذا يعود نتيجة الوضع المعيشي والاقتصادي والإغراءات التي يقدمها السماسرة للشباب".
وأشار إلى أن المعلومات الواردة من مناطق سيطرة الحوثيين تفيد بأن هناك شباب غادروا أيضا إلى ذات الوجهة ولنفس الغرض, وهو ما يكشف تورط الحوثيين في هذه العملية التي أقل ما توصف بأنها "إتجار بالبشر".
واختتم المصدر الأمني الحكومي حديثه بالقول: "الأمر بحاجة إلى جدية ووقفة وتحرك متكامل أمني ورسمي وشعبي واجتماعي واقتصادي وتوعوي، والنظر لمخاطر هذا التوجه نحو المحرقة".
شبكة مترابط
تدير عملية استقطاب الشباب وتجنيدهم شبكة مترابطة تعمل بآلية منسقة على الرغم من تواجد أعضاء الشبكة في مناطق متفرقة ما بين روسيا واليمن وسلطنة عمان امتدادا إلى العاصمة المصرية القاهرة.
مصدر مطلع أفاد لـ"المجهر" أن شخص يدعى (مشتاق) يقيم في روسيا وهو من يتولى استقبال الشباب المجندين هناك ويتولى مهمة إيصالهم إلى أماكن التجنيد المحددة مسبقا, بالتنسيق مع شخص آخر (م. م. ق) يقيم في عُمان ويُعتقد أنه يعمل بإشراف "الجابري".
وأضاف المصدر الذي فضل عدم ذكر اسمه, أن هناك طالب يمني يدرس الطب في روسيا ويدعى (ع. س. م) قدم مؤخرا إلى اليمن وينشط في العاصمة المؤقتة عدن حيث يتولى مهمة تسهيل سفر الشباب إلى روسيا, من خلال متابعة استخراج تأشيرة السفر بالتنسيق مع شخص آخر يحمل الجنسية الروسية ويقيم في القاهرة يدعى (ص.س).
وأشار المصدر إلى أن جميع أفراد الشبكة في الداخل اليمني لهم ارتباط وثيق بشخص لديه علاقات واسعة مع السفارة الروسية يدعى (س. م. ع) ويقيم في نطاق سيطرة الحوثيين بمنطقة الحوبان شرقي محافظة تعز.
إلى ذلك, كشف مصدر أمني في إدارة عام شرطة محافظة تعز عن ضبط الأجهزة الأمنية لشخص يدعى (س. م. ع) يعمل في استقطاب الشباب غربي المدينة لغرض تجنيدهم للقتال في روسيا.
وأوضح المصدر في حديثه لـ"المجهر" أنه من خلال البحث والتحري توصلت الأجهزة الأمنية إلى عدد من أسماء شبكة التجنيد في مديرية المسراخ هم: (م. خ.م) و (ف. م. ع) و(أ. ز) و يدعى (ع. أ) وشخص خامس يدعى (ر. س. م).
وأكد المصدر أن الأجهزة الأمنية تواصل تتبع المتورطين المذكورين في استقطاب الشباب إلى جانب اثنين آخرين في مديرية المعافر هما: (م. ع) و (م. ن) لضبطهم وإحالتهم الجهات القانونية.
وحذر المصدر الشباب من الانسياق خلف أي إغراءات أو وعود بالسفر إلى روسيا, وتصديق أوهام السماسرة بأن التجنيد سيكون لفترة تمتد لثلاثة أشهر فقط, كون الذهاب إلى هناك يعد تسليم مؤكد بمصير مجهول لا تُعرف نهايته
الدوافع والأسباب
يعتقد الصحفي والمحلل الاقتصادي وفيق صالح أن الدافع الأبرز الذي يجعل كثير من الشباب اليمني ضحية وفريسة لهذه الشبكات، هو الفقر، وانعدام فرص العمل، وعدم وجود أي أفق لإيجاد حلول في الجانب الاقتصادي، خصوصا مع إطالة أمد الحرب أو استمرار انهيار الأوضاع المعيشية والاقتصادية.
ويضيف صالح في حديثه لـ"المجهر" أن الكثير من الشباب اليمني يتطلع إلى السفر خارج البلاد, لأن كافة فرص الحياة في الداخل أصبحت مغلقة أمامه, وبالتالي يقع ضحية الاستغلال من قبل شبكات التجنيد والاتجار بالبشر.
ويؤكد الصحفي الاقتصادي وفيق صالح أن الشبكات التي تحاول المتاجرة بالشباب اليمني لها أهداف "مادية بحتة" لأنها تتحصل على أموال طائلة مقابل تجنيد الشباب, دون وضع أي اعتبار لما قد يحدث لهم لاحقا.
من جهته, يرى رئيس منظمة سام للحقوق والحريات توفيق الحميدي أن موضوع تجنيد شباب يمنيين للقتال في روسيا ما يزال بحاجة إلى "تحقيق أكبر لمعرفة هل هو بالفعل عمل ممنهج ومدروس ضمن سياق سياسي, أم فكرة تصرف فردي لأجل المال".
ويضيف الحميدي في حديثه لـ"المجهر" أنه يعتقد بأن هذا النشاط يعد نوع من نتائج التحالفات الجديدة بين روسيا وبعض دول المنطقة ، لافتا إلى رصد تجنيد يمنين للقتال في ليبيا والسودان ضمن مليشيات غير قانونية سابقا.
ويشير رئيس منظمة سام للحقوق والحريات إلى أن شبكات التجنيد تستغل العديد من العوامل منها الظروف الاقتصادية الصعبة في اليمن واندفاع العديد من الشباب بحثا عن عمل للحصول على وحياة أكثر استقرارًا، خاصة ومثل هذه الاستقطابات تكون مجزية ماديا.
وبحسب الحميدي فإن الدعاية والتضليل الذي يرافق مثل هذه العمليات، وكذلك الاستقطاب السياسي الأيدلوجي في المنطقة يجعل الاستقطاب سهل بدوافع أيدلوجية أو سياسية في ظل الوضع الحالي الذي يمر به الشرق الأوسط.
شهادات مؤلمة
كشف أحد الشباب اليمنيين الواصلين إلى أوكرانيا, وصف ما يحدث هناك بـ"المحرقة" موضحا أنهم أوصلوا إلى صحراء في أوكرانيا إلى داخل مخيمات التدريب التابعة للجيش الروسي, وبعد فترة بسيطة تم مصادرة وثائق وهواتف البعض, ولم يتسلموا أي مبالغ, كما فُرضت عليهم مراقبة مشددة.
يقول الشاب في شهادة أرسلها قبل مصادرة هاتفه الذي تمكن من إخفاءه لبعض الوقت : "والله إننا في محرقة ولا نستطيع أن نعمل شي ولا نتواصل ولا أعطونا حتى ريال واحد وأنه الكلام الذي كلمونا في بداية الأمر كذب في كذب لا رواتب ولا شيء".
ويضيف بحزن محذرا من يريد السفر إلى هناك :" أنصحكم لا عد تودفوا مثل ما ودفنا فوالله إنه احنا في محرقة ولا نستطيع العودة إلى اليمن, ننصحكم لا تصدقوا الذي بيقول لكم إنه في رواتب وفي جنسيات, وأنك ستقبى جندي رسمي داخل الأراضي الروسية".
ويشير الشباب إلى تعرضه وزملاءه للاحتيال والخداع قائلا: "احنا ضحايا سماسرة ما يخافوا الله زادوا علينا وودفوا بنا, صدقنا كلامهم وأخذونا إلى المحرق, فلا ندري أين احنا ولا يُسمح لنا بالتواصل أو النقاش أو المطالبة بأي شيء".
ويؤكد أنه تم مصادرة جميع ما بحوزتهم من مقتنيات وأشياء خاصة ومن يعترض يتم حبسه وتعذيبه, معبرا عن انقطاع أملهم بالعودة إلى اليمن بفعل المخاطر والقيود التي تواجههم هناك, حد وصفه.
ويجدد الشاب تحذيراته للشباب المغرر بهم: " هذه نصيحتنا لكم فلا يزيدوا عليكم", مطالبا بإيصال كلامه وزملاءه لتوعية الآخرين حتي يتفادوا الوقوع في ذات المأزق تحت يافطة التجنيد في روسيا.
جريمة عابرة للحدود
يؤكد الحقوقي توفيق الحميدي أن تجنيد "المرتزقة" فعل محظور وفق القانون الدولي, لافتا إلى أن ذلك يعد جريمة إتجار بالبشر عابره للحدود تستوجب عقوبة مشددة للمتورطين فيها.
ويرى الحميدي أن تجنيد الشباب اليمنيين للقتال في روسيا سيكون له تداعيات متعددة على مستوى الفرد والجماعة والدولة, في حال عاد هؤلاء المقاتلون بلافتات جديدة كما حدث سابقا مع العائدين من الحرب في أفغانستان.
ويضيف قائلا : "يؤثر علي الأسر التي قد تفقد معيلها أو أبنها حيث تترك العديد من العائلات تواجه مصاعب اقتصادية واجتماعية كبيرة, كما قد يمثل انتشار أفكار غريبة ومتطرفة يتلقاها الشياب الملتحقون بالقتال في الخارج، مما يشكل تهديدًا على أمنهم وأمن المجتمعات التي يعودون إليها".
ويشدد رئيس منظمة سام للحقوق والحريات على ضرورة التوعية بمخاطر هذه الجريمة من قبل المجتمع اليمني، والعمل على وقف الحرب لأنها تشكل مدخل رئيسي لتحسين الوضع الاقتصادي ومكافحة البطالة، والتعاون مع الدول الأخرى ومنظمات المجتمع الدولي لمكافحة هذه الظاهرة، وتبادل المعلومات الاستخباراتية.
من جهته, يقول المحامي والناشط الحقوقي علي الصراري أن القوانين والمعاهدات الدولية جرمت مثل هذه الأفعال وصُنفت من قبل مجلس الأمن الدولي بأنها من الجرائم الستة الجسيمة التي تستوجب العقوبة والمحاكمة لكل من يقوم بها.
ويوضح الصراري في حديثه لـ"المجهر" أن تجنيد المدنيين خارج الإطار الرسمي يعد عمل عصابات ممنهج، ومن يقوم بذلك يتعمد الاحتيال على الشباب وإيهامهم بالتجنيد مقابل الحصول على بعض المال من خلال عمل عسكري أو عمل معين خارج نطاق القانون، والمؤسسة العسكرية الرسمية، وبالتالي فإن هذا يعد عمل مليشياوي تتبعه الجماعات المسلحة مثل الحوثيين.
مخاوف وتحذيرات
تشير الأدلة إلى تورط جماعة الحوثيين المصنفة على قوائم الإرهاب الأمريكية بشكل مباشر في نشاط استقطاب شباب يمنيين للتجنيد في روسيا كـ"مرتزقة" مقابل بعض المال, فيما تبدي السلطات الحكومية مخاوف من استغلال الجماعة لهذا النشاط بنقل بعض المجندين إلى إيران لغرض إلحاقهم بدورات طائفية ومن ثم إعادتهم لتنفيذ أجندة طهران في اليمن.
مصادر مطلعة أكدت لـ"المجهر" قيام جماعة الحوثيين بالفعل بنقل مجندين إلى إيران على هامش التجنيد في روسيا, وهو ما رجحت المصادر أنه قد يكون بمثابة غطاء لحشد مقاتلين موالين لها لتلقي تدريبات طائفية في طهران.
وحذرت المصادر من عدم اتخاذ قرار صارم لإيقاف هذا النشاط المشبوه, لما قد يكون له من تأثيرات على الداخل اليمني كونه يستنزف المخزون البشري الأكبر في التركيبة السكانية, ويساهم في إطالة أمد الحرب في البلاد.
ختامًا، تعتبر ظاهرة تجنيد الشباب اليمني للقتال في الخارج تحديًا كبيرًا، يتطلب تضافر الجهود الوطنية والدولية لمكافحتها، وحماية الشباب اليمني من الوقوع في براثن هذه الظاهرة المدمرة, بحسب الحميدي