من أعماق التاريخ إلى موائدنا اليومية يحكي الملح قصة تطور الحضارة البشرية، وكفاح الإنسان من أجل البقاء. وعبر العصور لم تكن بلوراته البيضاء مجرد معادل موضوعي للأطعمة تمنحها نكهة أو تحسن مذاقها، بل أكثر من ذلك، دواء، نافذة عمل وكفاح، ورمزاً للحياة.
والملح في اليمن قصة طويلة. الملح الصخري والبحري معاً، وعلى رغم أن "صناعة الملح" تعد من أقدم الصناعات البحرية باعتبار أن الشركات الأجنبية العاملة في قطاع الملح ظهرت في عدن (جنوب) أواخر القرن الـ18 الميلادي، فإن مهنة استخراجه بطرق تقليدية لا تزال حاضرة في بعض مناطق البلاد.
بين الحرب وقوة الإرادة
وألقت الحرب بتداعياتها على مؤسسات الملح الحديثة وعلى العاملين في هذه المهنة التقليدية، ففي قصة كفاح تجسد مرارة الحرب وقوة الإرادة في آن، يعكف يمنيون على العمل بصورة يومية وتحت أشعة الشمس اللاهبة في مناجم صخرية لاستخراج الملح، في مسعى للبحث عن لقمة عيش كريمة أصبح الحصول عليها صعباً ومعقداً، دافعين بكل آمالهم وآلامهم نحو العمل حتى وإن كان مراً وقاسياً ويعرض حياتهم للخطر.
أحمد الصالحي (28 سنة) واحد من أولئك، فهو يعمل كل يوم في منجم للملح الصخري في منطقة عياد التابعة لمحافظة شبوة (جنوب)، ويتحدث عن يومه فيقول "نستيقظ بعد صلاة الفجر، ونعمل حتى الساعة الـ12 ظهراً في المنجم، وكل شخص منا يستخرج تقريباً أربعة أكياس ملح في اليوم الواحد، ونبيعها بـ4 آلاف ريال يمني (دولاران)، الدخل لا يكفي والمهنة لا تغطي حتى متطلبات البيت".
وشرح ظروف مهنته التي وصفها بـ"الشاقة والمحملة بكثير من الأخطار"، "فقدت كثيراً من أسرتي، مات أربعة أشخاص منا بسبب ركام الطين أثناء العمل".
ويشهد اليمن فيضانات في عدد من مدن البلاد جراء الأمطار الغزيرة، واضطر الصالحي إلى وقف العمل بسبب السيول التي يستحيل معها استخراج الملح.
طرق بدائية
يقضي الصالحي سبعة أيام في إزالة الطبقة الطينية التي تغطي الملح، باستخدام أدوات حفر بدائية كالفاروع (أداة للحفر في التراب المتماسك)، والمغرفة (أداة لسحب التراب)، والمكنسة (لتنظيف التراب)، والمقباض (يستخدم لطحن الملح) والشقف (لسحب الملح المطحون) ثم بعد ذلك يعبئ الملح في أكياس، ويخيطها، ومن ثم يذهب به إلى السوق.
أما استخراج الملح البحري فيتطلب إنشاء أحواض تجميع ومن ثم يبدأ بتحضيره في أحواض التركيز حتى ترتفع نسبة الملوحة إلى 95 في المئة، وبعد ذلك يُحول إلى أحواض الإنتاج.
ومنذ عشرات السنين شكلت هذه المهنة المتوارثة مصدر دخل يومي لعدد من الأسر اليمنية التي تعيش في مناطق استخراج الملح البحري مثل عدن والحديدة وحضرموت، أو قرب مناجم الملح الصخري في بيحان شبوة، وصافر في مأرب، ومناطق شبه جزيرة الصليف في الحديدة (غرب).
استخراج وتصدير الملح
في ما يخص تأثير الحرب في استخراج وتصدير الملح إلى الخارج، قال مدير قطاع الملح في المؤسسة العامة للملح عدن، نبيل عبدالله مهيوب، في حديثه إلى "اندبندنت عربية" إن "هناك تأثيراً كبيراً لها، وبجهود كل العاملين أصلح ما يجب إصلاحه وأعيد سير العملية الإنتاجية".
بخصوص الصادرات أضاف "متوقفة تماماً منذ عام 2015 حتى يومنا هذا بسبب الحرب، ولجأت الشركات المتعاملة مع القطاع إلى أسواق أخرى لتلبية حاجاتها من الملح، لأن رسوم التأمين على البواخر ارتفعت، وهي بدورها رفعت السعر، لهذا فإن الصادرات متوقفة بصورة كاملة".
أما خالد عبدالله عابد فأفاد بأن النشاط التجاري لبيع وشراء الملح في السوق المحلية "لا بأس به خلال هذه الفترة، لكنه تناقص كثيراً خلال السنوات الأخيرة مقارنة بما كان عليه الوضع قبل الحرب، أي منذ عام 2015". وعلى صعيد تصديره إلى الأسواق الخارجية أردف "الحرب وضعف الترويج الخارجي لهذه السلعة أفقداها حضورها في الأسواق الخارجية".
العملة الأجنبية
وأشار في سياق حديثه إلى أن "أجور العمال اليومية وعمليات شراء المواد البلاستيكية المخصصة للتغليف والأرباح أصبحت مرتبط بالعملة الأجنبية، بالدولار الأميركي أو الريال السعودي، ولا يبقى من المشتريات إلا مادة الملح تشترى وتباع في السوق بالريال اليمني".
وفي المصنع يعمل 10 عمال بالأجر اليومي ويتقاضى كل فرد ما بين 10 و15 ألف ريال يمني (5- 8 دولارات)، كل عامل على حسب إنتاجه ونشاطه. لكن العمال يشكون أيضاً من أن الدخل اليومي لا يغطي حاجاتهم الشخصية، فضلاً عن أن بعضهم يعول أسرة كاملة.
ووصل سعر الريال اليمني إلى 1913 مقابل الدولار الأميركي الواحد في عدن حسب التعاملات المسائية غير الرسمية الأخيرة.
فرصة استثمارية
ويرى خالد عبدالله عابد أن الدافع وراء عودة كثير من الأسر إلى هذه المهنة هو الوضع الاقتصادي والبحث عن لقمة العيش ورغبة العائلات في تحسين أوضاعها، وكفرصة للاستثمار، معتبراً أن هذا بحد ذاته "مشجع لفرص الاستثمار في البلاد".
وأشار المسؤول في قطاع الملح في عدن إلى أن تحديات كثيرة ومشكلات تواجه القطاع منها "العقود التي تصرف من قبل الهيئة العامة للأراضي لأشخاص بنوا بيوت صفيح في المنطقة الشرقية داخل حرم القطاع، وكذا البسط العشوائية بين الحين والآخر من قبل بعض المواطنين الخارجين عن القانون، ورمي القمامة ومخلفات البناء والمأكولات من قبل المواطنين بمحاذاة الأحواض، ومحطة البنزين والديزل المقامة داخل أراضي القطاع".
وأكد أن تلك العشوائيات "ستؤدي حتماً إلى حصول تلوث وأضرار على إنتاج الملح، داعياً جميع شرائح المجتمع إلى الحفاظ على هذا الصرح الاقتصادي".
حجم الصادرات السابقة
ويعد عام 1998 عاماً مميزاً في حجم صادرات اليمن من الملح، إذ صدر أكبر كمية في تاريخ المؤسسة التي بلغت 92 ألف طن، منها تقريباً 82 ألف طن لإثيوبيا و10 آلاف طن إلى جزر سيشيل، وفي عام 1999 منعت جمهورية جيبوتي مرور الملح اليمني عبر أراضيها إلى إثيوبيا، واقتصرت الكميات ما بين 16 و18 ألف طن إلى جزر سيشيل فقط حتى عام 2014.
ويطل اليمن على بحرين هما البحر الأحمر من الغرب، وبحر العرب من الجنوب وخليج عدن. ويعد البحر الأحمر أكثر البحار ملوحة في العالم، إذ تراوح ما بين 3.6 و4.1 في المئة، مما يعني أن نسبة الملوحة فيه أعلى من المتوسط العالمي بنحو أربعة في المئة.
أقدم الصناعات البحرية
وتعد صناعة الملح من أقدم الصناعات في اليمن، حيث أنشئت أول شركة أجنبية في عدن في أواخر القرن الـ18 عام 1886، وهي "شركة الملح الإيطالية"، وما زالت مباني الملاحات قائمة حتى اليوم ظاهرة بالاتجاه المحاذي لمطار عدن.
وفي عام 1908 أنشئت الشركة "الهندية العدنية للملح" في الموقع الحالي للقطاع. وفي عام 1923 أنشئت "ممالح كالتكس" في المنطقة الحرة عدن، وفي العام ذاته أنشئت "شركة الملح الفارسي" عند مدخل مديرية "البريقة"، واستمرت هذه الشركات تعمل حتى عام 1970.
وصدر القرار الجمهوري اليمني رقم 11، القاضي بإنشاء "المؤسسة العامة اليمنية للملح"، واستمرت هذه المؤسسة بالعمل حتى عام 1973، وخلال هذه الفترة جرى التعاون بين الحكومة اليمنية ونظيرتها الصينية في سبيل تطوير أساليب الإنتاج في قطاع الملح ووصلت الطاقة الإنتاجية آنذاك من 120 إلى 150 ألف طن.
وتمنى مدير قطاع الملح في المؤسسة أن تعود الصادرات كما كانت في السابق، لما لها من أهمية في تجديد الأصول المتعلقة بالإنتاج، وأنها "تلعب دوراً كبيراً في رفد خزانة الدولة بملايين الدولارات"، حسب قوله.
وتضاعفت معدلات الفقر والبطالة في اليمن في العقد الأخير، جراء الحرب الأهلية، إذ يحتاج 23 مليون يمني إلى المساعدات، منهم 10 ملايين في حاجة إلى معونات غذائية عاجلة لتجنب المجاعة التي بدأت في عدد من المناطق اليمنية، وفق التقارير الأممية