صحيفة: حزب الإصلاح في اليمن.. آخر قلاع الإخوان في جزيرة العرب

لا يمكن فهم المشهد السياسي اليمني بمعزل عن الدور الذي لعبه حزب التجمع اليمني للإصلاح، الذي شكل منذ إعلان الوحدة عام 1990 أحد أعمدة السلطة، مستفيدًا من تحالفاته السياسية مع نظام الرئيس علي عبدالله صالح في صنعاء، ومن خلفيته الفكرية المستمدة من جماعة الإخوان المسلمين، رغم رفعه لشعارات التعددية وبناء الدولة الحديثة، إلا أن المصلحة الحزبية والتمكين الإخواني ظلا هدفًا رئيسيًا، حتى لو كان ذلك على حساب استقرار اليمن ومصالح شعبه.
العلاقة بين جماعة الإخوان المسلمين والنظم السياسية في الجنوب حملت طابعًا عدائيًا منذ عقود، حيث واجه الإخوان مقاومة شديدة من السلطات الحاكمة في الجنوب قبل الاستقلال الأول وبعده، خلال الحكم الاستعماري البريطاني لعدن، حاولت الجماعة التسلل إلى المشهد السياسي الجنوبي عبر العمل الدعوي والخيري، لكنها اصطدمت بموقف صارم من القوى السياسية التي كانت تقود الحراك الوطني كونها ذات توجهات ليبرالية نحو الاستقلال، وبعد إعلان جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية عام 1967، حاول الإخوان اختراق الدولة الجديدة عبر تكوين جماعات دينية أصولية تسعى لإثارة الفوضى وتقويض السلطة الوطنية الناشئة، إلا أن الحكومة الجنوبية تعاملت معهم بحزم، ما أدى إلى تفكيك هذه الجماعات وإجهاض مخططاتها.
ومع إعلان دولة الوحدة عام 1990، كان ما يقدر بمئات من عناصر الإخوان في الجنوب محكومين بالسجن في قضايا أمن الدولة بسبب محاولاتهم السابقة لخلق اضطرابات أمنية عبر تشكيل خلايا متشددة، لكن الوحدة فتحت أمامهم نافذة جديدة لاستعادة نفوذهم، وهو ما تحقق بشكل كبير بعد تحالفهم مع نظام الرئيس علي عبد الله صالح، الذي وجد فيهم أداة مفيدة لموازنة القوى السياسية في الجنوب وإضعاف الحزب الاشتراكي اليمني، شريكه الرسمي في الوحدة عبر الصفقة التآمرية التي عقدها الشيخ القبلي عبدالله بن حسين الأحمر والرئيس علي صالح.
◙ هل يستطيع حزب الإصلاح الاستمرار في المراوغة، واللعب على التناقضات، أم أن المتغيرات الإقليمية والدولية ستجبره على مواجهة واقعه الجديد
كان لحرب صيف 1994 تأثير بالغ على مسار حزب الإصلاح، حيث تحالف مع الرئيس صالح ضد الحزب الاشتراكي الجنوبي، مستخدمًا الدين كسلاح في المعركة، أطلقت الفتاوى التكفيرية العنان لحملة دينية شرسة، صُوِّر فيها الجنوبيون بوصفهم “ملحدين” و”مرتدين” وهي أول فتوى تكفيرية صدرت عن التنظيمات الإسلامية قبل القاعدة وتنظيم داعش، مما أتاح وفقًا لهذا الخطاب تبرير سفك دمائهم ومصادرة ممتلكاتهم، لم يقتصر الأمر على الشحن الديني، بل جرى تجييش مقاتلين عادوا من أفغانستان، إضافة إلى عناصر جهادية استقطبها الحزب عبر شبكاته الإخوانية، ليتحولوا إلى رأس حربة عسكرية ضد الاشتراكيين، في حرب انتهت بانتصار صنعاء وترسيخ واقع جديد هيمنت فيه القوى الشمالية على الجنوب، ما دفع كثيرين إلى اعتبار ما حدث احتلالًا ألغى الهوية السياسية الجنوبية وأعاد هيكلة السلطة وفقًا لأجندات الحزب وحلفائه.
أفرزت هذه الحرب بيئة غير مستقرة أتاحت لحزب الإصلاح ترسيخ نفوذه داخل أجهزة الدولة، كما شكلت حاضنة أولى لتنظيم القاعدة في جزيرة العرب، حيث استغل التنظيم المناطق الجنوبية، التي شهدت تهميشًا ممنهجًا، لتوسيع نفوذه في ظل فراغ أمني خلقته سياسة الإصلاح وحلفائه في السلطة، ولعب الزنداني والترابي والقرضاوي أدوار متقدمة في تلكم المرحلة التي استقطب فيها الأفغان العرب الذين تم تجنيدهم في حرب 1994، ثم غياب التنمية في الجنوب، مهّد لنمو الفكر الجهادي في تلك المناطق، حيث تحولت بعض المحافظات إلى ملاذات آمنة للمتطرفين خلال العقود التالية.
وظّف حزب الإصلاح انتهازيته السياسية للبقاء في المشهد، متنقلًا بين مواقع السلطة والمعارضة، وفقًا لما يخدم مشروعه الإخواني، خاض الانتخابات، وشارك في حكومات ائتلافية، ثم لعب دور المعارضة كلما رأى ضرورة للضغط على حلفائه، لكنه في كل المراحل، كان هدفه الأول ترسيخ الوجود الإخواني داخل مؤسسات الدولة، خصوصًا في المؤسسة التعليمية والعسكرية، حيث تشير التقديرات إلى أن أكثر من 150 ألف عنصر داخل الجيش اليمني يدينون بالولاء لأفكار المرشد العام لجماعة الإخوان، مما يجعل هذه القوة العسكرية أداة جاهزة لفرض أجندة الحزب متى تطلب الأمر ذلك.
بعد ثورة 2011، استغل الإصلاح الفراغ السياسي ليعزز موقعه، لكنه خسر الكثير من دعمه الإقليمي بعد سقوط حكم الإخوان في مصر عام 2013، إثر موقف خليجي حاسم قادته السعودية والإمارات ضد مشروع الإسلام السياسي، هذا التطور دفع الحزب إلى البحث عن تحالفات بديلة، بعضها وصل إلى حد التنسيق مع جماعة الحوثي في بعض المناطق، كورقة ضغط وابتزاز سياسي ضد التحالف العربي.
ومع تشكيل مجلس القيادة الرئاسي عام 2022، تمكن الحزب من تأمين مواقع حيوية داخل المجلس لصالح شخصيات محسوبة عليه، ما سمح له بترسيخ وجوده داخل المؤسسة العسكرية والأمنية، عبر تجنيد المزيد من العناصر الإخوانية داخل الجيش، وهي خطوة من شأنها إبقاء القرار العسكري رهن إرادة الحزب، بدلًا من أن يكون جزءًا من مشروع وطني جامع.
وفي الجنوب، واصل الإصلاح تكتيكاته التخريبية عبر تعطيل الخدمات وافتعال الأزمات داخل المحافظات المحررة، لضمان استمرار الفوضى التي تمنع الجنوبيين من بناء نموذج مستقر خارج نفوذه، هذه السياسة تسهم في تشويه صورة أي محاولات لإعادة بناء الدولة، ما يجعل الحزب شريكًا رئيسيًا في إدامة عدم الاستقرار.
◙ حزب الإصلاح يحاول اليوم استنساخ تجربة هيئة تحرير الشام في سوريا، عبر تقديم نفسه كقوة سياسية تفرض سياسة الأمر الواقع
واليوم، يحاول حزب الإصلاح استنساخ تجربة هيئة تحرير الشام في سوريا، عبر تقديم نفسه كقوة سياسية تفرض سياسة الأمر الواقع، رغم سجله الطويل في دعم التطرف والتقلب بين الولاءات، إنه يسعى لتموضع جديد يضمن له البقاء، ولو عبر التخلي الجزئي عن بعض الشعارات الأيديولوجية، كما فعلت هيئة تحرير الشام عندما حاولت تقديم نفسها ككيان سياسي يمكن التفاوض معه.
السؤال الأهم الآن: هل يستطيع حزب الإصلاح الاستمرار في المراوغة، واللعب على التناقضات، أم أن المتغيرات الإقليمية والدولية ستجبره على مواجهة واقعه الجديد؟
في ظل التحولات التي يشهدها الإقليم، والتراجع المستمر لمشاريع الإسلام السياسي، يبدو أن الحزب بات أمام معادلة معقدة، فهو لم يعد يمتلك الغطاء الإقليمي الذي وفر له الحماية لعقود، كما أن سياساته في الداخل أصبحت مكشوفة للشارع اليمني، الذي يدرك أن مشروع الإصلاح لا يختلف في جوهره عن المشاريع الأيديولوجية الأخرى التي سعت إلى اختطاف الدولة لصالح أجندات حزبية.
لا شك أن القوى الوطنية في شمال اليمن تتحمل مسؤولية كبرى في كبح جماح هذا النفوذ، ومنع أي محاولات جديدة لإعادة تشكيل الدولة وفق رؤية إخوانية تتعارض مع المصلحة الوطنية. وإذا كان اليمن بحاجة إلى مشروع جامع، فإن المؤسسة العسكرية لا يمكن أن تبقى رهينة لتيارات أيديولوجية، بل يجب أن تُعاد هيكلتها بما يضمن ولاءها للوطن لا للحزب.
المستقبل يظل مفتوحًا على عدة سيناريوهات، لكن المرجح أن الإصلاح سيواجه تحديات غير مسبوقة في ظل زيادة الضغط الإقليمي والدولي ضد جماعات الإسلام السياسي، واتجاه القوى الوطنية لإعادة ترتيب المشهد السياسي بما يقطع الطريق أمام أي مشروع يعيد إنتاج الماضي تحت لافتات جديدة، حتى يحدث ذلك، سيبقى اليمنيون الشماليون يدفعون ثمن تحالفات الحزب المتقلبة، في بلد أصبح بأمسّ الحاجة إلى قوى سياسية تعيد بناء الدولة بعيدًا عن الأيديولوجيات العابرة للحدود، فلا جماعة الحوثي أو الإصلاح هي خيارات قابلة للبقاء لطبيعة تكوين الجماعات الدينية التي تنتهي عادةً بصراعاتها الداخلية كما انتهى حال أمراء حرب أفغانستان.