“لماذا ترسل ابنتك صورها للناس عبر “واتساب؟” كان هذا سؤالاً طرحه موظّف “الشركة اليمنية العمانية المتحدة للاتصالات – يو” (YOU) على مستخدمٍ قصد مكتب الشركة في مدينة تعز، ليتقدّم بشكوى مفادها أنّ أنّ رقم ابنته الذي تستخدمه للوصول إلى تطبيق “واتساب” وغيره من وسائل التواصل تمّ بيعه لشخصٍ آخر.
كانت هذه حادثة شهدها الناشط المجتمعي اليمني محمد عبدالله أثناء وجوده في مركز الشركة لإجراء بعض المعاملات الخاصة. يضيف عبدالله في حديثٍ مع “سمكس”، أنّ المشتكي تحدّث عن عمليات الابتزاز والرسائل المسيئة التي تصل إلى ابنته وصديقاتها من قبل الشخص الذي حصل على رقم ابنته.
ظهر مؤخراً عددٌ كبير من الشكاوى عبر وسائل التواصل، نشرها مستخدمون/ات اشتكوا من مشاركة غرباء لأرقامهم/ن التي يستخدمونها منذ سنوات، في ظلّ صمتٍ لافت لشركات الاتصالات اليمنيّة التي امتنعت عن إصدار أيّ تصريحاتٍ رسمية حول الموضوع.
مصادرة تلو الأخرى
عام 2022 أدخلت شركة “يمن موبايل” (Yemen Mobile) للاتصالات، التي تتشارك في ملكيتها الدولة والقطاع الخاص والصناديق الائتمانية، خدمات الجيل الرابع (4G) إلى السوق اليمنية، لتكون الشركة الأولى التي توفّر هذه الخدمة في البلاد. كان الإقبال على الاشتراك في الخدمة صخماً حينها، وفاق قدرة الشركة على تأمين أرقام جديدة للمشتركين/ات الجدد، ما دفعها إلى اللجوء إلى الأرقام غير النشطة أو منتهية الصلاحية، والتي من المفترض أن يكون أصحابها قد أهملوها منذ فترة من الزمن. عام 2023، وبالتزامن مع حصول “يمن موبايل” على رخصة تشغيل خدمات الجيل الرابع، كانت شركة “سبأفون” (Sabafon) هي الأخرى قد حصلت على الترخيص لتشغيل الخدمة ذاتها.
كانت الناشطة الحقوقية اليمنيّة شروق الرفاعي واحدة من بين كثيرين/ات ممّن اكتشفوا أنّ رقم هاتفهم/ن الخاص يملكه شخصٌ آخر. في مقابلة مع “سمكس”، تقول الرفاعي إنّ الشخص الذي اشترى رقمها بدأ بالتواصل مع أصدقائها وأقربائها ليطلب منهم مبالغ مالية، وانتحل صفتها قائلاً إنها (أي شروق) تمرّ بضائقة ماديّة. وتضيف أنّ منتحل الصفة راح يطلب من صديقاتها أن يرسلن صورهنّ الخاصة، ولم تتمكن من كشف الأمر إلا عندما شكّت إحدى صديقاتها بالأمر، باعتبار أنّ الرفاعي لم تطلب شيئاً مماثلاً قط، فذهبت إلى منزل الأخيرة لتتاكّد بنفسها من الأمر، ليتبيّن أنّ شخصاً غريباً يملك رقمها.
“سبب هذا الأمر أزمة كبيرة بالنسبة إلي، وانقطعت بسببه علاقتي بعدّة أشخاص”، تقول الرفاعي لـ”سمكس”، مشيرة إلى أنّ شركة الاتصالات باعت رقمها من دون إنذارٍ مسبق، مع أنها كانت تحرص على شحن رصيدها باستمرار. وعندما قصدت الرفاعي الشركة، طُلب منها مبلغٌ كبير من المال من أجل إرجاع الرقم، وما زاد من حساسية المشكلة، هو أنها رقمها مرتبطٌ بحساباتها على كافة وسائل التواصل، كونها تستخدم ميزة التحقق بخطوتين.
الموقف نفسه تعرّض له الصحافي اليمني المتخصّص بقضايا حقوق الإنسان عصام بلغيث، الذي كان معتقلاً لسنوات من قبل جماعة أنصار الله الحوثيين في صنعاء، قبل أن يُطلق سراحه عام 2022 بدون أوراق ثبوتية تخوّله شراء شريحة اتصال.
تلقّى بلغيث مساعدة من أحد أصدقائه وتمكّن من شراء رقم هاتفٍ جديد من شركة “يو” في مدينة مأرب، إلا أنّه تفاجأ بعد أيّام بعدم قدرته على الوصول إلى تطبيق “واتساب”، وعندما اتصل برقمه الخاص من هاتفٍ آخر، أجاب شخصٌ أكّد أنّه اشترى الرقم من مقر الشركة وأنّه بات “يملكه الآن”.
ظنّ عصام أن التواصل مع شركة الاتصالات لحلّ المشكلة سوف يتطلّب الكثير من الوقت، في حين أنّ رقمه الضائع يحوي كل ما يتعلق بعمله وتواصله مع المنصات والمنظمات ورصد انتهاكات حقوق الإنسان، فقرّر التواصل مع الشخص الذي اشترى الرقم، والذي بدا طفلاً، واستطاع إقناعه باستعادة الرقم. بعد أن استعاد الرقم. قصد بلغيث مقرّ الشركة ليستفسر عن الأمر، إلا أنّ الموظفين/ات لم يبدوا أيّ تفاعل أو استعدادٍ للمساعدة.
عام 2021 أُعلن رسمياً عن بيع شركة الاتصالات “أم تي إن” (MTN) إلى مستثمرين غير يمنيين وتحويل اسمها إلى شركة “يو”، لتبدأ بالعمل والإعلان عن تدشين خدمات “الجيل الرابع” السريع. قالت الحكومة في عدن آنذاك إنّ عملية البيع هذه غير قانونية، وإنّ جماعة الحوثيين سيطروا على الشركات تحت مسمى “مستثمرين أجانب”، وأصدرت قراراً بمنع عمل الشركة في مناطق سيطرتها لا سيما في عدن والمحافظات الجنوبية، والتي كان مشتركو الشركة فيها كثراً، ما اضطر هؤلاء إلى الاشتراك في خدمات “يمن موبايل” وإيقاف العمل بأرقامهم/ن السابقة إلا عبر “واتساب” وتطبيقات التواصل الأخرى. وقد استمرّ بعض هؤلاء بتعبئة رصيد تلك الأرقام، إلا أنّ ذلك لم ينجّهم من خسارتها.
في 21 آب/أغسطس المنصرم، أعلن مجلس الوزراء اليمني في الحكومة المعترف بها دولياً التوقيع على اتفاقية استثمار لشركة إماراتية في قطاع الاتصالات بالمناطق الخاضعة لسيطرة القوات الحكومية، من دون تقديم أيّ تفاصيل حول الاتفاقية نفسها أو حتى اسم الشركة المعنيّة. بعد أيّام قليلة، كشف تقريرٌ أصدرته لجنة تقصي الحقائق في البرلمان اليمني أنّ اسم الشركة هو “إن إكس تكنولوجي” (NX technology)، متّهماً الحكومة بخرق الدستور والعمل خارج أحكامه، واصفاً الأمر بـ”المخالفة الجسيمة، وبأنّها سابقة خطيرة لم يسبق لأي حكومة من قبل أن اقترفتها على الإطلاق”.
لم تنحصر المشكلة بشركة “يو”، إذ واجهها أيضاً المشتركون/ات بخدمات شركة “يمن موبايل”، شركة الاتصالات الأكبر في اليمن. ومع تدشين خدمات “الفور جي”، توسّع نشاط الشركة وزاد عدد المشتركين/ات بخدماتها، حتى أعلنت الشركة أن عدد المستخدمين تجاوز عشرة ملايين مشترك. ولكن بعد أن كانت فئة الأرقام التي توزّعها الشركة منذ عام 2005 تبدأ بـ77، ومع زيادة عدد المشتركين/ات، اضطرت الشركة إلى إطلاق فئة جديدة تبدأ بالرقم 78، خاصة أنها الشركة الوحيدة التي تعمل في جميع الأراضي اليمنية.
لا تختلف المواقف التي تعرّض لها مستخدمو/ات “يمن موبايل” عن تلك التي واجهها مستخدمو/ات “يو”. رقية دنانه، وهي صحافية يمنيّة من مدينة عدن، تكشف في حديثٍ لـ”سمكس” أنّ صديقاتها تواصلن معها فجأة لسؤالها عن أسباب محاولات إجرائها لمكالمات الفيديو معهن في وقتٍ متأخر من الليل، وتغيّر طريقة كلامها ولهجتها، مشيرة إلى أنّها لم تكن على علمٍ بذلك قبل أن تنبّهها صديقاتها.
تماماً كما حدث مع الرفاعي، لم تكتشف دنانه حقيقة الأمر إلا بعد أن زارتها صديقتها شخصياً لتستفسر عن الأمر، بحسب ما قالت لـ”سمكس”، كما أكّدت أنها كانت تقوم بشحن رصيد رقمها الذي تملكه منذ سنوات باستمرار لئلا تخسره. ذهبت رقية إلى مقرّ شركة “يمن موبايل” في عدن، فكان ردّ الموظفين/ات أنّ هاتفها (أي دنانه) مغلق ولم يعد نشطاً منذ فترة، ما اضطرهم إلى بيع الرقم، وعندما أكدت لهم/ن العكس، قالوا إنّ عليها “التواصل مع مشتري الرقم والتفاهم معه”.
وبالفعل، هذا ما فعلته دنانه، وتضيف لـ”سمكس” أنّ مشتري الرقم لم يكن متجاوباً، وأحياناً يوافق على إعادة الرقم ثم يعود ويرفض، وما زال الحال كذلك حتى كتابة هذا المقال.
لهذه الظاهرة تأثير ضخم على جوانب كثيرة، وليس فقط التواصل عبر الهاتف ووسائل التواصل، وهذا ما تثبته تجربة محمد عوض التي شاركها مع “سمكس”. عوض، وهو موظّفٌ مقيم في محافظة مأرب، كان قد ذهب إلى محل صرافة لاستلام حوالة أرسلت إليه من قبل أحد أقربائه؛ وفي اليمن، تطلب شركات الصرافة رقم هاتف المستلم للتأكد من هويته. أعطى عوض رقمه التابع لشركة “سبأفون”، والذي يملكه منذ سنوات طويلة، إلا أنّه تفاجأ بموظف الشركة يقول إنّ الرقم مسجّل باسم شخصٍ آخر، وبالتالي لا يستطيع تسلّم الحوالة.
تواصل عوض مع صديقٍ له في صنعاء، أوصاه بدوره بمراجعة مقر الشركة والاستفسار عن الأمر، فكان ردّ الشركة أنّ الرقم قد تم بيعه لشخصٍ آخر ولم يعد ملكاً لعوض، وطلبت منه “التواصل مع مشتري الرقم والتفاهم معه”. يشرح عوض لـ”سمكس” أنّه يتلقّى في العادة الكثير من الحوالات المالية من أقربائه وأصدقائه لإنجاز بعض المهام لهم في مأرب، إلا أنّ ما جرى عرقل عمله واضطره إلى مشاركة منشورات عبر منصة “فيسبوك” أكّد فيها أنّ لا علاقة له بالرقم بعد الآن.
ردّ الشركات
بدورنا، تواصلنا مع شركات الاتصالات العاملة في اليمن، وطرحنا عليهم هذه المشكلة والشكاوى المتزايدة.
قصدت “سمكس” بداية مدير العلاقات العامة في شركة “يمن موبايل”، عبد الرحمن الزيادي، الذي قال إنّ نظام بيع الأرقام الخاملة هو نظامٌ ملزم من قبل وزارة الاتصالات التي تمنع أصلاً أي شركة من إدراج أيّ فئة جديدة إلا بعد رفع تقارير سنوية تكشف عدد الأرقام النشطة وتفصح عن ما يعرف بحركة الأرقام، لأن ذلك يعتبر مورداً من موارد الشركات، وعليه، ينبغي لها استثماره بالطرق السليمة. وقد حصلنا على الرد نفسه من إدارة التسويق في شركة “يو”.
أما بخصوص ظاهرة مصادرة الأرقام، قال الزيادي إنّ الأرقام الخاملة لا بد من مصادرتها بعد خمولها بفترة ستة أشهر وليس ثلاثة أشهر كما في السابق، خاصة بعد هذه الزيادة الهائلة بعدد المشتركين/ات، مشيراً إلى أنّه تستحيل مصادرة أيّ رقمٍ تم شحنه وأن الشكاوى الواردة بخصوص ذلك “غير صحيحة”.
وأخيراً، اختتم الزيادي حديثه لـ”سمكس” بالقول إنّ ردّ الشركة الذي يطلبون فيه من أصحاب الشكاوى التواصل مع مشتري الرقم وحل ّمشكلتهم/ن معه كان “منطقياً وواقعياً” في الفترة الماضية، أما الآن، فإن الشركة “مدّدت فترة مصادرة الرقم من ثلاثة أشهر إلى ستة أشهر، ولا تبيع الرقم مباشرة بعد مصادرته، وتمنح المشترك مدة شهرين لاسترجاع الرقم. وعند انتقال الرقم إلى ملكية شخصٍ آخر، فإن الشركة لا تستطيع التصرف أو إجبار مشتري الرقم على إرجاعه”.
أما شركة “يو”، فقالت في ردّها على “سمكس” إنها لا تملك تلك الأرقام، ولكنها تملك المنفعة من تشغيلها، وإنّ ضمن بنود عقد الاتفاق مع المشترك بندٌ يلزم المشترك بعدم ترك رقمه خاملاً لثلاثة أشهر متتالية، وإلا فسيحقّ للشركة سحبه وإعادة بيعه “للاستفادة من هذا المورد الوطني الذي تقوم الشركة سنوياً بشراء منفعته من وزارة الاتصالات وتقنية المعلومات”.
أما شركة “سبأفون”، ومقرّها في صنعاء، فلم يصلنا منها أيّ رد حتى ساعة نشر هذه المقالة.
يرى الخبير في برمجة الاتصالات ماجد الأعور أنّ المشكلة قد تكون في نظام الشركات الذي يعدّ الرقم الذي لا يجري أو يتلقّى اتصلاتٍ رقماً خاملاً حتى لو تم تعبئة رصيده باستمرار، ويضيف الأعور في حديثٍ لـ”سمكس” أنّ الشركات تعتمد خوارزمياتٍ معينة توقف الرقم تلقائياً اذا لم يقم بأي نشاط اتصالي.
علاوة على ذلك، قد تكون بعض الأخطاء البرمجية مسؤولة عن سحب الأرقام الخاملة بشكل سريع دون التأكد من نشاطه، وتلك مسؤولية الشركات التي ينبغي عليها معالجة المشكلة وتنبيه المشتركين إذا دعت الحاجة.
مصادرة الخصوصية
إن خسارة الناس أرقامهم لا تعني فقط مصادرة ملكيتهم لتلك الأرقام وإنما هي مصادرة لأمنهم وخصوصيتهم. في هذا الصدد، تقول المهندسة اليمنيّة المتخصصة في مجال الأمن الرقمي نور خالد إنها تلقت خلال الأشهر الثلاثة الماضية عشرات الشكاوى من أناسٍ اكتشفوا أنهم/ن يشاركون أرقامهم/ن مع غرباء، وخاصّة من قبل مستخدمي/ات “يمن موبايل”.
في مقابلة مع “سمكس”، تشرح خالد كيف تسبّب توقّف عمل شركات “سبأفون” و”يو” في عدن والمحافظات الجنوبية بلجوء الناس إلى شراء خطوطٍ جديدة تابعة لـ”يمن موبايل” مع الاحتفاظ بالأرقام السابقة كما لوسائل التواصل، مؤكّدة أن مشكلة مصادرة الأرقام الأخيرة هي واحدة من أكبر المشاكل لما نتج عنها من حالات ابتزاز، خاصة وأنّ المشتركين/ات يستخدمون أرقامهم/ن لتفعيل ميزة التحقق بخطوتين، أي أنّ أرقامهم/ن هي في العادة مرتبطة بكلّ حساباتهم/ن وحضورهم/ الرقمي.
وتضيف خالد إن الخيار الوحيد الذي يملكه المستخدمون/ات في اليمن الآن هو تفعيل ميزة التحقق بخطوتين وربطها بالإيميل بدلاً من رقم الهاتف.
تعمل في اليمن أربع شركات اتصالات للهاتف الجوال، تقع مقراتها الرئيسية في العاصمة صنعاء وتخضع لسيطرة جماعة “أنصار الله الحوثيين” منذ العام 2014، وتخدم أكثر من ثلاثين مليون مواطنٍ يمني. تأسست أول شركة جوال في اليمن عام 2001 وأطلق عليها شركة سبأفون بفئة ارقام تبدأ بـ711، وفي العام نفسه، انطلقت شركة سبيستل يمن بفئة ارقام تبدأ بـ733، ليتم بيعها عام 2006 إلى مجموعة شركات “أم تي إن” العالمية، ومن ثم يتم بيعها مرة أخرى عام 2022 إلى مجموعة من “المستثمرين غير اليمنيين”. عام 2007 انطلقت الشركة “واي تيليكوم” (Y Telecom) تحمل أرقام 700، إلا أن هذه الشركة لم تلقَ النجاح الذي لاقته الشركات السابقة.
عام 2004، بدأت شركة “يمن موبايل” العمل بفئة ارقام تبدأ بـ777 كشركة مساهمة تمتلك الحكومة اليمنية عبر مؤسسة الإتصالات الجزء الأكبر من أسهمها.