يكشف تحقيق صحافي للعربي الجديد، كيف تُستنزَف موارد اليمن البشرية، إذ يُجنّد المتحاربون شباناً في سنّ الجامعة، وبدلاً من تحقيق أحلامهم في حياة كريمة وبناء الوطن، يعودون جثثاً هامدة إلى عائلاتهم أو معوَّقين يمكثون جوارها في انتظار سلام لم يأتِ.
لم تنجح النظارة الداكنة في إخفاء إعاقة الكفيف اليمني عبد الرحمن صلاح (19عاماً) الذي كان يُعدّ نفسه ليصبح مهندساً مدنياً، غير أن الحياة القاسية أجبرته على صرف النظر عن الدراسة الجامعية والالتحاق بمعسكر لجماعة أنصار الله (الحوثيين) في جبهة البلق بمدينة مأرب شمال شرق صنعاء في يناير/ كانون الثاني 2022.
وسرعان ما حصل صلاح على رقم عسكري وراتب شهري قدره 40 ألف ريال (الدولار يعادل 530 ريالاً يمنياً في مناطق سيطرة الحوثيين). وعقب شهر من التدريب العسكري، أرسله قادته إلى ميدان القتال ليُصاب بشظايا قذيفة مدفعية أفقدته بصره، كما روى لـ"العربي الجديد".
مؤكداً أن وضع أسرته المتردي أجبره على خيار التجنيد، إذ كان والده موظفاً حكومياً ينال راتباً قدره 80 ألف ريال، لكن توقف صرفه في سبتمبر/ أيلول 2016، ولم يعد أمام صلاح أكبر الأبناء من خيار سوى تحمّل عبء إعالة الأسرة، قائلاً: "كنت أعمل في مجال توصيل الطلبات على دراجة نارية استأجرتها، لكن لم أسدّ احتياجات أسرتي".
وبعد نهاية أحلامه، يقضي صلاح جُلّ وقته في حلقات حفظ القرآن الكريم بمسجد قريب، لكنه ما زال يتقاضى راتبه السابق بعد إدراجه في قائمة معوَّقي الحرب.
وتكررت تجربته مع خمسة شبان آخرين هجروا مقاعد الدراسة الجامعية، والتحقوا بصفوف أطراف الصراع على جبهات القتال، كما يوثق تحقيق "العربي الجديد"، وهو ما يتطابق مع ما يكشفه تقرير منظمة سام للحقوق والحريات (حقوقية مستقلة مقرها جنيف) بعنوان: ما زالوا في الجبهة.. تجنيد الأطفال واستخدامهم من قبل أطراف الصراع في اليمن، الصادر في 12 فبراير/ شباط 2023.
والذي يحصر 11310 مجندين لدى المتصارعين تقلّ أعمارهم عن 18 عاماً في 19 محافظة، من بينهم 4461 شاباً في سنّ دخول الجامعة التحقوا بالتجنيد خلال الفترة الممتدة من نهاية عام 2014 وحتى ديسمبر/ كانون الأول 2022.
نزف في موارد البلاد البشرية
في فبراير/ شباط 2019 أنهى انفجار لغم أرضي على الحدود الشمالية مع السعودية طموح أيمن (أُخفيَ اسمه الثاني بناءً على طلب والده) إلى أن يصبح مهندس إلكترونيات، وكان عمره حينها 18 عاماً، وبدلا من التحاقه بالجامعة وتحقيق حلمه التحق قبل عام من مقتله بصفوف القوات المسلحة اليمنية (الشرعية) التي انضم إليها من ضاحية الحوبان بمحافظة تعز الواقعة جنوب غربيّ البلاد.
وبحسب رواية قريب له، اختفى أيمن فجأةً ولم تعرف عائلته ما جرى إلا بعد اتصال من مقرّ خدمته يبلغهم بمقتله، وتواصل أعضاء من فريق الخبراء التابع للأمم المتحدة معهم في أثناء العمل على نقل شهادات عن تجنيد الأطفال والصبية في صفوف أطراف النزاع.
ويصف المحامي توفيق الحميدي، رئيس منظمة سام للحقوق والحريات، تجنيد آلاف الشباب في سنّ الالتحاق بالجامعة وانخراطهم في الأعمال القتالية بـ"الظاهرة المؤرقة والمتنامية"، مضيفاً في حديثه لـ"العربي الجديد" أنّ الأمر بدأ منذ انطلاق شرارة الصراع اليمني بين الحكومية الشرعية والحوثيين في سبتمبر/ أيلول 2014، واتخذت أطراف الصراع أنماطاً معقدة لتجنيد الشباب، إما طوعاً وإما قسراً، تعويضاً لخسائرها في المعارك الدائرة.
ويعتبر تقرير منظمة سام تردي الأوضاع الاقتصادية لآلاف الأسر اليمنية إما بتوقف راتب عائل الأسرة وإما باعتقاله أو قتله، سبباً مهماً في حرف مسار هؤلاء الشباب، ومن بين الـ 11310 أطفال وشاب الذين رصدهم التقرير، فإن 6126 شخصاً من أسر معدومة الدخل، أي ما نسبته 52.7%، بينما كان 3194 مجنداً من أسر محدودة الدخل بنسبة 27.5%، و1990 شاباً من أسر متوسطة الدخل، أي ما نسبته 17.1% من إجمالي المجندين.
ولا يُعَدّ العامل الاقتصادي السبب الوحيد خلف تنامي الظاهرة، ويحدد الحميدي سببين آخرين، أولهما ما وصفه بـ"عسكرة الجامعات"، إذ إن جامعة صنعاء أصبحت تحت إشراف مليشيا الحوثي، ولها مسؤول من الجماعة يدير أنشطتها ويشرف على فعالياتها، مؤكداً أن الجماعة تستغل طلاب الجامعات، وخصوصاً من هم في السنة الدراسية الأولى لتعبئتهم، ودفعهم إلى ميادين القتال، ويُعَدّ تصاعد حدة خطاب الكراهية والتخندق في المجتمع اليمني ثاني الأسباب، بعدما اتخذ الصراع أبعاداً مؤجِّجة للتعصب بين فئات المجتمع.
الحوثيون الأكثر استقطاباً للشباب
يوثق تقرير صادر عن منظمة ميون لحقوق الإنسان (يمنية مستقلة مقرّها عدن معنية بالدفاع عن حقوق الإنسان) بعنوان: الأطفال المحاربون، عبر الاعتماد على قاعدة بيانات الضحايا، أن الفئـة العمرية بيـن عمري السادسة عشرة، والسابعة عشرة، أي سنّ الالتحاق بالجامعات في اليمن، هي الفئة الأكثر تعرضاً لانتهاك التجنيـد لدى جماعة الحوثي.
وبلغ عددهم 764 شخصاً من أصل 2233 شخصاً تقلّ أعمارهم عن 18 عاماً جندتهم الأطراف المتحاربة في 18 محافظة يمنية شملها البحث، خلال الفترة الممتدة من 1 يوليو/ تموز 2021 وحتى نهاية عام 2022، من بين هؤلاء 98.9% استخدمتهم جماعة الحوثي مباشرةً في النزاع المسلح، بينما جند أطراف تابعون للحكومة اليمنية المعترف بها دولياً ما نسبته 1.1% من العدد الإجمالي.
ويتسق توثيق ميون مع تقرير منظمة سام الذي رصد عمليات التجنيد في مدى زمني أكبر من أواخر عام 2014 وحتى ديسمبر 2022، إذ ضمّ الحوثيون إلى صفوفهم 10.649 طفلاً وحدثاً (دون الثامنة عشرة)، في مقابل 54 جندتهم جماعات أخرى، منها تنظيم القاعدة.
مغريات جذب المجندين
يسلك "الحوثيون" عدة سبل لاستقطاب مجنديهم في مقتبل العمر، بحسب ما تكشفه تجارب الحالات التي يوثقها "العربي الجديد"، إذ تدير الجماعة مدارس تسمى "شهيد القرآن"، وهناك يُستقطَب الشباب باستخدام منهجية التلقين العقائدي ثم تجنيدهم.
وبحسب تقرير منظمة ميون، يخضع الشباب في تلك المدارس لدورات وبرامج فكرية، وبمجرد إنهائها يلتحقون بتدريبات قتالية. ويشير التقرير إلى أن الجماعة تمنح المجندين الشباب ممن تراوح أعمارهم بين 17 و22 عاماً رتباً عسكرية وهمية كوسيلة جذب
وكان من بين الحالات التي وثق التقرير انخراطها في التجنيد 6 شبان منحوا رتبة عقيد و25 رتبة مقدم، ومنحت الجماعة رتبة رائد لـ 6 آخرين، ورتبة نقيب لـ 79 ورتبة ملازم ثانٍ لـ149، وملازم أول لـ166، فيما منحت الجماعة رتب جندي وضابط ومساعديهم لـ821 مجنداً من هؤلاء.
علاوة على ذلك، يُغرى أولئك الشبان بالمال عبر وعدهم بأن رواتبهم ستصل إلى 20 و30 ألف ريال يمني، بالإضافة إلى حصولهم على سلات غذائية وإمدادات يومية من القات
ويضيف التقرير أن الحوثيين يستقطبون جندين بقوة السلاح، وبالقبضة الأمنية على المؤسسات التعليمية كالمدارس والمعاهد والجامعات، وكذلك المؤسسات الدينية كالمساجد ودور تحفيظ القرآن، واستغلال المراكز الصيفية، وممارسة ضغوط على زعماء القبائل والمشايخ والأعيان.
في المقابل، تنتهج القوات الحكومية من أجل ضمّ المزيد من الشباب إلى صفوف مقاتليها سياسة "الترشيح الشخصي" عن طريق الأصدقاء والأقارب أو شخص في القرية مسؤول عن ذلك، أو سياسة التجنيد الإجباري، وفقاً لما أورده تقرير منظمة سام السابق، مؤكداً أن القوات الحكومية والقوات التابعة للمجلس الانتقالي الجنوبي تجند الشباب قسراً وطوعاً منذ عام 2017.
يعودون جثثً
تسلمت أسرة اليمني عمر إبراهيم (اسم مستعار بناءً على طلب ذويه) ابنهم الذي لم يتعدّ عمره الثامنة عشرة جثة هامدة بعد مقتله في جبهة محافظة الضالع جنوب صنعاء بحسب ما يروي والده لـ"العربي الجديد"، والذي طلب إخفاء اسمه حتى لا يُستبعدوا من كشوف "الحوثيين" لرواتب قتلاهم، إذ يتقاضوا راتبا بقيمة 40 ألف ريال.
وكشف أن تجنيد ابنه حدث في أحد المراكز الصيفية لتلقي العلوم الدينية في صنعاء، وأن بعض هذه المراكز توفر إقامة كاملة للشباب وتقدم لهم الرعاية الشاملة من طعام وملابس وترفيه أسبوعي، ما يمثل عامل جذب لهم.
"بعد تجنيده كان يأتينا بالمال كل عدة أشهر، ما ساعدنا على الوفاء باحتياجاتنا الأساسية، وشجعنا على دفعه إلى البقاء في صفوف المتحاربين وتأجيل أمر الدراسة والالتحاق بكلية الحاسوب كما كان يتمنى عمر". وبينما يغالب الأب دموعه لائمًا نفسه ومستدركًا: "الحال لم يستمر، وسرعان ما تسلمت جثة ابني و100 ألف ريال نفقات دفن، ولم يبقَ من ذكرى إبراهيم سوى صورة كتب عليها اسمه شهيدًا معلقة على أحد جدران البيت".
وتتشابه الظروف التي دفعت أسرة إبراهيم إلى قبول تجنيده بظروف أسرة أيمن ناصر (اسم مستعار حفاظًا على أمان ذويه من الملاحقة الأمنية) التي صرفت النظر عن إكمال نجلهم تعليمه الجامعي، وتقبّلت انضمامه إلى معسكر لـ"الحوثيين" في تعز، إذ يقول الوالد لـ"العربي الجديد": "كان ابني متفوقًا دراسيًا ويحلم بأن يلتحق بكلية الطب في جامعة صنعاء لدراسة المختبرات الطبية، لكننا استسلمنا لضيق ذات اليد بعد توقف راتبي في وزارة التربية والتعليم منذ 2018 وتركناه في سبيله، فكان يرسل لنا كل راتبه الشهري وسلة غذائية مكونة من الدقيق والأرز والزيت والبقوليات، إلا أنه قتل في جبهة الحوبان بمحافظة تعز خلال التدريب على الاقتحامات في 17 ديسمبر 2023".
تراجع عدد الطلاب الجامعيين
تكشف إحصائيات وزارة التعليم العالي والبحث العلمي في صنعاء (التابعة للحوثيين وهم الفئة الأكثر استقطاباً للمجندين) أن عدد الطلاب الملتحقين بالجامعات الحكومية في العام الدراسي الحالي 2023/2024 بلغ 21.784 طالباً، أي أقل بنسبة 40% عن عام 2017 الذي شهد التحاق 36.396 طالباً بها، فيما بلغ عدد الملتحقين بالجامعات الأهلية 26.246 طالباً في عام 2022، بينما كان العدد 27.121 طالباً وطالبة، في عام 2021.
ويقرأ أحمد الأديمي، أستاذ الإدارة التربوية في جامعة إب الحكومية بمحافظة إب جنوب صنعاء (تحت سيطرة الحوثيين)، الإحصاءات السابقة، في سياق تأثير تجنيد الشباب ممن هم في سنّ الالتحاق بالجامعة في أعداد المقاعد والإقبال على شغلها من قبل الطلاب، ما أدى إلى شغورها، واصفاً ذلك بأنه نتيجة طبيعية بالنظر إلى نشاط أطراف الصراع في تجنيد الشباب في سنّ الدراسة الجامعية.
وبدأت وزارة التعليم العالي والبحث العلمي في صنعاء بالتسجيل للعام الدراسي 2023/2024 في 13 مايو/ أيار 2023، واضطرت إلى تمديد فترة القبول أكثر من مرة وحتى بعد مرور 3 أشهر من بداية العام الدراسي بعد شكاوى الجامعات الحكومية والأهلية من ضعف الإقبال، كما يوضح الأديمي.
ويكمل أحمد فتيني، أستاذ الإدارة العامة في جامعة الحديدة الحكومية في محافظة الحديدة غربيّ البلاد (خاضعة لسيطرة الحوثيين)، مؤكداً أن ضعف الإقبال على الدراسة الجامعية يرتبط بتوقف صرف الرواتب، ما انعكس على الوضع الاقتصادي لأُسَر الطلاب العازفين عن التعليم الجامعي والذين أمسوا غير قادرين على دفع تكاليف الدراسة، ومن بينهم مرشد دبوان (17 عاماً) الذي لم يستطع تدبير مصروفات عامه الدراسي الأول بكلية التجارة وإدارة الأعمال في جامعة دار السلام الدولية للعلوم والتكنولوجيا بصنعاء، البالغة 250 ألف ريال، فلم يكن أمامه سوى الانخراط في صفوف الحوثيين.
وبحسب رواية شقيقه سامي دبوان، فإن مرشد عاد بعد مدة من خدمته في معسكر بيت الذيب بمديرية الحيمة الداخلية في صنعاء وهو يعاني من أزمة نفسية وصار يخشى الحديث للغرباء، فدبرت أسرته له عملاً في مخبز قريب، لكنه عاد إلى المعسكر مرة أخرى بعد تواصل أحد زملائه معه، ما ضاعف قلق أسرته عليه خشية تعرضه للقتل، خصوصاً أن حالة الشاب النفسية حالياً تجعله غير قادر على القتال.
المصدر/(العربي الجديد)