أن تبحث عن التعايش في مدينة "عدن" فكأنك تبحث عن تاريخٍ روحاني طويل من عمر المدينة، فكل ماتراه أمامك من اختلافات عرقية في الوقت الحالي، والتي هي سلالات من أجناس قديمة، لا يوحي إلا بمساحة شاسعة للتعايش تعكس مدى تقبل الآخر...
في أزقة المدينة الكبيرة أينما وليت وجهك فأنك تجد ما يشعجك لتكمل بحثك ومشوارك الذي تقصده عن التعايش، المعابد، الكنائس، القلاع، والمساجد الكبيرة، وطيبة أبناء المدينة وسماحتهم.
وأنت تقف في وسط المدينة ستلمح نموذج التعايش السلمي ينسكب من على مشارف الكنيسة " النائمة أعلى مرتفعات كريتر -كنيسة سانت ماري والتي أصبحت مجلس تشريعي بعد عام (1947)- المبنية بالأحجارِ الشمسانية على الطراز الفيكتوري والاسطح ثلاثية الشكل، بما يتناسب مع المباني التي تميزت بها مدينة عدن؛ ليعكس التعايش الذي تحتضنه المدينة حتى بشكل وتجانس المباني.
في مدينة متعبة حتى النخاع بقاء بعض هذه الآثار صامدة إلى هذه اللحظة مثل "معبد الخساف"؛ يوحي بمكانة هذه الأماكن في قلوب بعض أبناء عدن المؤمنة بالحرية والتعددية.
غير أن الكثير من الكنائس والمعابد تلاشت معالمها وآثارها، ولم يبقَ منها سوى بقايا أطلال تنبض بالروحانية في قلوب سمحة.
لكن لحسن الحظ فقد وجدت هنا الكثير يتحسرون لكون هذه الآثار أُهملت فأدركها الموت؛ بعوامل سلاح البشر الذي حملته ظلمًا وعدائية وتطرف، رغم أنها تاريخ عتيق له حق البقاء في كل زمان ومكان، فالدين لله والأرض للجميع.
عدن هي المدينة الساحلية الجميلة ذات القلب الكبير الذي يخبرك بها كل عدني عن التعايش الديني والمذهبي مع الجاليات والطوائف الوافدة إليها بشعائرهم ومعتقداتهم، ومنهم الفرس والهنود والهندوس والبنيان والنصارى واليهود-وهي ديانة عريقة في اليمن-، والبهرة الإسماعيلين، وقد عاشوا في عدن وقت من الأوقات، إلى درجة أن هذه الطوائف كانت ماسكة مناصب كبيرة أيام حكومةالاستعمار البريطاني، وكانوا يمثلون في المجلس التشريعي تمثيل كامل.
الآثار هنا باقية ولا تدل إلا على انحسار تاريخ للتعايش واسع وعظيم، قدمته المدينة لجميع الطوائف، لكن التعايش هنا لم ينحسر بعد، فالناس يحملون اتجاه الأديان و الطوائف الأخرى الحب والتسامح والوفاء ويشيدون بما قدمته لهم من أعمال خيرية ونبيلة، والدليل على ذلك ما قدمته الأمهات الراهبات في دار العجزة بمديرية "الشيخ عثمان"
«ما قدمته الديانات الأخرى لمدينة عدن»
عملت الكنائس في السابق على تقديم الخدمات الطبية وانشات المراكز الصحية والمستشفيات، وعملت على تقديم الدعم والعمل الخيري للمسلمين داخل مدينة عدن، كذلك عملت على بناء أربع مدارس تخدم المدينة وتؤدي رسالتها للطالب اليمني، وقد تخرج منها أجيال وكوادر حكموا البلاد، وتخرج منها على مدى قرن من الزمان أجيال كثيرة كلهم مسلمون لم يدخل منهم أحد في المسيحية، ولم يطلب منهم يوما اعتناق المسيحية، وهذا يدل على التعايش السلمي بين طوائف هذه المدينة المسالمة.
«الإنصاف بمبدأ المواطنة لا الديانة أو العِرق»
في وقت البريك، وأنا أكتب مقالي هذا داخل سور معهد "اميديست" تعالت أصوات زملائي وهم يتبادلون الآراء والأفكار عن الأحزاب والطوائف والتعددية وحرية التدبير الذاتي في اليمن، وممارسة الحرية الكاملة في اختيار الحزب أو المذهب تحت نظام سياسي رحب يكفل حماية الجميع، لفت انتباهي حديثهم؛ لأنه يلامس حروف قلمي، فانضميت إليهم لاستلطع بعض أراهم.
زميلتي "فرح" كانت أحد المتحاورين، و عندما سألتها عن رأيها في التعايش بين الناس مختلفين الأحزاب والطوائف والأديان قالت: " الاختلاف سنة الحياة والتعايش الديني هو ممثل لنموذج الاختلاف الإيجابي، احترام وجهات النظر المختلفة والإيمان بأن لكل إنسان حق في الحياة والله وحده المسؤول عنه واجب لكل فرد".
تكمل "فرح" حديثها" أنا عندي اصدقاء موسيح وهم طيبين وحبوبين، وكل وأحد منا يحترم الآخر، ونهنى بعضنا بالمناسبات الدينية، والله خلقنا شعوبا وقبائل لنتعارف، وليس لنعادي بعضنا ونتذمر من طباع وتوجهات بعضنا".
بصوت عالي يقاطعنا زميلنا "معاذ" " أتمنى أن تسن اليمن قوانينها على مبدأ المواطنة وليس الديانة أو العرق، أو الانتماء، نحنُ في المجتمع كأفراد، وفي التعداد السكاني كأرقام، وفي السياسة كمواطنين ومساهمين بما يخدم الوطن، فلماذا الحساسية من توجهات بعضنا إذن؟
«السيدة الهندية ومسلمي كريتر»
وأنا أبحث عن قصص التعايش داخل مدينة عدن، التقيت بموظف يعمل في الهجرة والجوازات يدعى "معاذ البير" وهو هندي الأصل، وعندما سألته عن صور التعايش داخل كريتر لكونها أكثر المديريات متعددة الأجناس، أخبرني عن السيدة الهندية الهندوسية، وقد كانت وحيدة في منزلها في كريتر، وعندما مرضت واشتد المرض عليها أهتم بها جيرانها من المسلمين، وأخذوا يتعهدونها كل يوم ويقدمون لها الدعم والأكل والدواء، حتى أنها استغربت كثيرا من تعامل المسلمين وطيبتهم، ثم أنها في أخر أيامها نطقت الشهادة ثم ماتت.
أخذت بالبحث عن صورٍ أخرى للتعايش فأخذنا رحلة في منطقة "الخساف" التقيت بسيدة هندوسية أخرى تحمل أرقى مشاعر الحب والتسامح- تحفظت باسمها للضرورة- غير أن جميع أفراد أسرتها مسلمين، كانت السيدة ترتدي الحجاب الإسلامي، وعندما سألتها كيف ترتدي الحجاب وهي هندوسية؟ قالت: إنها تحترم لباس النساء داخل المدينة، وتتعايش معهم، ومع أسرتها المسلمة تحترم دينهم، ويحترمون دينها، وتؤدي عبادتها في منزلها، ولا يمكن أن تفكر يومًا أن تخالف قواعد المدينة لكونها هندوسية.
«عن ماضي تعايش الأمم»
كمسلمة متأملة في التاريخ القديم منذ فجر الرسالة الإسلامية، وقرأت الكثير عن المجتمعات والدول والحضارات الأولى، كان الحق عليا بأن ما أكتبه هنا هو أن التعددية والتعايش كانت من أهم القيم والمبادئ في المجتمعات طوال التجربة الإسلامية منذ دستور المدينة الأول، ولا يرغم أحد على اتباع ملة ما، أو توجه محدد، أو يطارد وينتهك بسبب توجهه أو أصله، مهما كانت قوة الدولة الحاكمة، فقد جاءت رسالتنا الحبيبة كونية الخطاب عالمية الدعوة، وأصبحت المدينة المنورة عاصمة لدولة محمد متعددة العقائد والشعوب المسالمة.
ووضع الرسول -صلى الله عليه وسلم- أسس التعايش الكبير وفقًا لتوجيهات القران الكريم ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾ و﴿لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أنْ تَبَرُّوهُمْ﴾.
وكان الرسول(ص) يزور مرضى اليهود، ويقوم احترامًا لجنائزهم، ويعاملهم ماليًا حتى إنه اقترض من تاجر يهودي فتُوفي ﷺ ودرعه مرهونة لديه.
وقد سارت الأمم بعد ذلك على هذا النهج في التعايش الرحب، حتى أن قادة الفتوح الإسلامية كانوا يعطون لأصحاب الأرض المفتوحة "الأمان لأنفسهم وملتهم وأموالهم وكنائسهم وصلبانهم وممارسة شعائرهم.
كثير من استطلع مقالي آرائهم يؤمنون بالتعددية وحرية الاعتقاد والتوجه والاختيار الذاتي، ويعون ما نصت عليه المبادئ الأممية والمواثيق الدولية من حرية الاعتقاد وحماية دور العبادة، وأن التظالم ومحاسبة الناس على توجههم الديني انتكاسة كبيرة للقيم، ومرض يقتل عافية المجتمعا، ينتج عنه تمزق النسيج المتلاحم وزراعة الفتن القاتلة للسلام.
وإن من ينكر حرية الفرد في اختياره الذاتي تحت ذريعة الدين الإسلامي، ليس له حق في ذلك، حسب ما أثبتته التجربة الإسلامية على مر العصور، فالدين الإسلامي برئ من هذه التطرفات العدوانية، وقد ثبت بأن الكنائس التي بمصر لم تُبْنَ إلّا في الإسلام في زمن الصحابة والتابعين، وهذا يدلل تسامح الدين الإسلامي ومدى تقبل الآخر، بل إن الإسلام أوجب حماية المواطنين من غير السلمين "ومنْعَ مَن يقصدهم بأذى واستنقاذ من أُسِر منهم، وتكفل بحماية دُور العبادة لجميع الأديان، فقال تعالى: ﴿ولَوْلا دَفْعُ اللهُ الناسَ بَعْضَهم بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وبِيَعٌ وصَلَواتٌ ومَساجِدُ يُذْكَرُ فِيها اسْمُ اللهُ كَثِيرًا﴾
غير أن بعض الأماكن الدينية والحرية الذاتية لم تلبث حتى تراجعت مظهرا منذُ 2015، كنائس دمرت وأُحرقت، ومعابد هدمت، وتم البسط عليها، والاعتداء وقتل بعض المقيمين عليها، وأصبحت الناس خائفة من الدفاع على هذه الأماكن، رغم أنها دور عبادة ذكرت حمايتها في القران الكريم، وقواعد القانون الدولي الإنساني مهما كانت انتماءات الأطراف المتنازعة وتوجههم.
الصورة المشرقة التي يحاول أن يخفيها ويشوهها الكثير من الحاقدين عما عكسته عدن طوال تاريخها منذ فجر التأسيس حتى اليوم وأثبتت جدارتها بالحفاظ على مناخ معتدل يرى في الأساس أن الإنسان حر في دينه ومعتقداته، ومذاهبه، دون تزامت أو عسف، أو وصاية أو تطرف، مجتمع سلام لا يأبى إلا بترسيخ القاسم المشترك الذي يجمع مصالح جميع الأطراف، ومهما تأججت نار الفتن والتفرقة كانت بسبب الدين أو العرق أو الحزب أو الانتماء أو الجنس أو اللون، ستطفائها نسائم عدن الباردة.
بالنهاية فأنه وقتًا طويل ظل صوت موج بحر عدن يخفت تارة لمآذن المساجد، وتارة لأجراس الكنائس، فظلت مدينة للسلام والهوايات المتلاحمة ذات الحضن الكبير الذي اتسع للأبيض والأسود، المسلم والبوذي والجعفري والهندوسي والمسيحي والمجوسي الشافعي الزرادشتي والحنفي و الإسماعيلي والحنبلي والصوفي والكاثوليكي والبروتستانتي، وستظل أكبر من أي تعصب أرعن.