حمل اختيار إسرائيل على ميناء الحديدة على الساحل الغربي لليمن ليكون موضع الاستهداف الرئيسي بعملية القصف التي جاءت ردّا على قصف جماعة الحوثي لتل أبيب بطائرة مسيّرة، إنذارا إسرائيليا شديد اللهجة للجماعة المسيطرة على أجزاء واسعة من الأراضي اليمنية، بأن العصب الحيوي لتلك المناطق هدف مكشوف للطيران الحربي الإسرائيلي، وأنّ أيّ تصعيد قادم من قبل الحوثيين المرتبطين بإيران سيكلفهم خسارة أهم منفذ لهم على العالم الخارجي وأبرز مصادر الحياة والاستمرار للسلطة التي يديرونها.
ومن دون الميناء المقام على ساحل البحر الأحمر وباقي الشريط الساحلي الغربي لليمن، تفقد مناطق سيطرة الحوثيين الكثير من قيمتها وتتحول إلى مناطق داخلية يسهل على خصوم الجماعة حصارها وعزلها وحرمانها من الإمداد بشتى أنواع السلع والمواد الأساسية، إلى جانب السلاح والذخائر التي يأتي جزء منها مهرّبا من إيران ويتمّ إدخاله عبر تلك المناطق.
وفي ظل افتقار الحوثيين لنظام دفاع جوي فعّال يمكن لإسرائيل أن تفرض هيمنة على أجواء مناطق الحوثي وأن يدمّر طيرانها مرافقهم الحيوية بما في ذلك ميناء الحديدة والمنشآت المرتبطة به وأن يشل الحركة في منطقة شاسعة محيطة به. وفي مظهر على أهمية ميناء الحديدة والشريط الساحلي الذي يقع الميناء ضمنه كان التحالف العسكري بقيادة السعودية قد جعل منه قبل نحو خمس سنوات هدفا لعملية عسكرية كبيرة رُصدت لها مقدرات مادية وبشرية ضخمة بهدف السيطرة عليه وحرمان جماعة الحوثي من الخدمات الكبيرة التي يسديها لهم.
وفي ما كانت المؤشرات الميدانية تؤشر إلى هزيمة وشيكة للحوثيين في الحديدة وباقي مناطق الشريط الساحلي الغربي لليمن، جرت تدخلات دولية وأممية سريعة أفضت إلى وقف المعركة بحجّة أن لها تداعيات كبيرة على الأوضاع الإنسانية، وتم تمرير اتفاق بشأن الحديدة عرف باتفاق ستوكهولم نسبة إلى العاصمة السويدية التي احتضنت المحادثات التي أدت إلى التوصل إليه لتكون خلاصته الأخيرة إنقاذ الجماعة من خسارة الحديدة ومينائها.
وعاش ميناء الحديدة أحد أصعب فتراته منذ سنوات في أعقاب مشاركة قرابة عشرين طائرة إسرائيلية من نوع آف- 15 السبت في قصفه. وجاء القصف الإسرائيلي له ردّا على قصف الحوثيين الجمعة الماضية لمدينة تل أبيب بطائرة مسيّرة ما أسفر عن قتيل وعدة إصابات. وحسب هيئة البث الإسرائيلية فإن إسرائيليا قتل وأصيب عشرة آخرون في هجوم المسيّرة التي نجحت في تفادي الدفاعات الإسرائيلية ونظمها المتطورة لتسقط على بعد مئات الأمتار من سفارة الولايات المتحدة في تل أبيب.
ماجد المذحجي: قصف الحديدة يدعم ادعاء الحوثيين محاربة إسرائيل
والأحد دعا رئيس حزب “إسرائيل بيتنا” أفيغدور ليبرمان إلى تدمير ميناء الحُديدة “بشكل كامل”، معتبرا أن الهجوم الذي نفذته جماعة الحوثي الجمعة ألحق أضرارا هائلة باقتصاد إسرائيل. وفي سياق متصل قال الرئيس التنفيذي لميناء إيلات الإسرائيلي جدعون غولبر الأحد إنه مضطر لتسريح نصف العمال بسبب إغلاق الميناء منذ ثمانية أشهر نتيجة العمليات التي تقوم بها جماعة الحوثي في البحر الأحمر.
وأوضح في مقابلة صحفية نشرتها الأحد صحيفة عبرية أنّ النشاط في ميناء إيلات الذي يمثل البوابة الجنوبية لإسرائيل نحو الشرق الأقصى إلى أستراليا وأفريقيا توقّف لعدم قدرة السفن على المرور في أيّ اتجاه للوصول إليه ولا المرور نحو أوروبا عبر قناة السويس، وبالتالي توقف الدخل الذي يدرّه الميناء. وبذلك تتضافر الدوافع الأمنية والاقتصادية لإسرائيل لتصعيد ضرباتها للمنشآت الحيوية التي يستخدمها الحوثيون.
وفي إطار ما تقول الجماعة إنّه تضامن مع غزة في الحرب الإسرائيلية ضدّها، يستهدف الحوثيون منذ أشهر بصواريخ ومسيّرات سفن شحن إسرائيلية أو مرتبطة بها في البحر الأحمر وبحر العرب والمحيط الهندي. وفي المقابل يشن تحالف تقوده الولايات المتحدة منذ يناير الماضي غارات تستهدف مواقع للجماعة في مناطق مختلفة من اليمن ردا على هجماتهم البحرية.
ويقع ميناء الحديدة في منتصف الساحل الغربي لليمن على البحر الأحمر وبالقرب منه من الناحية الغربية يقع التشكيل الطبيعي المعروف برأس الكثيب والذي يحميه من العواصف والأمواج العالية. تم إنشاؤه في بداية عقد الستينات من القرن الماضي بالتعاون مع الاتحاد السوفياتي في ذلك الوقت. ومن أمامه تمرّ مختلف حركة تجارة السلع والنفط من الشرق إلى الغرب، وبالعكس، كما تمرّ من قاع المنطقة البحرية القريبة منه، خطوط الإنترنت الدولية. كما تمرّ عبره مختلف الصادرات والواردات إلى جانب المساعدات الإنسانية التي تصل البلاد منذ بداية الحرب الدائرة منذ قرابة العقد من الزمن.
وأظهر حجم لهيب النيران والدخان الكثيف التي وثقتها مقاطع فيديو إثر الضربات الإسرائيلية أن إسرائيل تعمدت قصف مخازن ومستودعات النفط والمشتقات التابعة لميناء الحديدة ما يضع جماعة الحوثي أمام صعوبات إضافية في تلبية الحاجة المتزايدة للوقود الذي تعرف مختلف مناطق اليمن نقصا فادحا فيه.
كما تعرضت مكاتب المنشآت النفطية إلى القصف الإسرائيلي إلى جانب واحدة من أهم محطات توليد الكهرباء التابعة لمدينة الحديدة. كذلك تعرض اثنا عشر مستودعا في الميناء إلى قصف جزئي أو كلي، وهي مستودعات بمساحة إجمالية تتجاوز مليون متر مربع بحسب أرقام حكومية. وقال موظف في الميناء فضّل عدم الكشف عن هويته إن الحريق يتواصل في مستودعات الوقود ومحطة إنتاج الكهرباء، لافتا إلى أن احتواء الحريق يتطلب عدّة أيام، الأمر الذي أكده أيضا خبراء في شؤون اليمن كون فرق الإطفاء تفتقر إلى المعدات اللازمة.
وقال محمد الباشا، كبير محللي الشرق الأوسط في مجموعة نافانتي الأميركية إن الحريق قد يمتد إلى منشآت تخزين المواد الغذائية. ويثير هذا الأمر مخاوف من ازدياد نقص الغذاء في اليمن أفقر دول شبه الجزيرة العربية حيث تسببت الحرب التي يشهدها منذ سنوات بين الحوثيين والحكومة المعترف بها دوليا في أزمة إنسانية كبيرة.
◙ دوائر أمنية وعسكرية تساءلت على مدى قدرة الحوثيين على الصمود في مواجهة حقيقية ضدّ إسرائيل التي تمتلك قدرات عسكرية هائلة
وعلى صعيد الخسائر البشرية أعلنت جماعة الحوثي، الأحد، ارتفاع ضحايا الغارات الإسرائيلية إلى ستة قتلى وثلاثة مفقودين وثلاثة وثمانين جريحا. وتوعد الحوثيون إسرائيل بالرد على قصفها الحديدة. وقال يحيى سريع المتحدث العسكري باسمهم إن ردّهم سيكون "هائلا".
وبعد الضربات الإسرائيلية على الحديدة، وهي الأولى التي تنفذها الدولة العبرية ضد الحوثيين، أفاد الجيش الإسرائيلي الأحد بأنه اعترض صاروخا آتيا من اليمن و”كان يقترب من إسرائيل باتجاه مدينة إيلات". وحذّرت العديد من الجهات السياسية من داخل الإقليم وخارجه من تصعيد غير محسوب للصراع في المنطقة جرّاء المنعطف الجديد في المواجهة بين إسرائيل وأحد الأذرع الإيرانية في المنطقة.
وتساءلت دوائر أمنية وعسكرية من جهتها على مدى قدرة الحوثيين على الصمود في مواجهة حقيقية ضدّ إسرائيل التي تمتلك قدرات عسكرية هائلة، وخصوصا في مجال الطيران الحربي، قادرة على إلحاق أضرار كبيرة بأهداف عسكرية وحتى منشآت مدنية حيوية تستغلّها جماعة الحوثي في الهجوم على الملاحة البحرية واستهداف مناطق في الداخل الإسرائيلي.
وقال مصدر سياسي يمني إنّه يجب الانتظار ومراقبة سير الأحداث واتجاهها، فمن غير المستبعد أن "تدفع الضربة الإسرائيلية، التي قد تكون مجرّد إنذار أوّلي، قيادة جماعة الحوثي إلى التفكير بجدية في مصير المناطق التي تسيطر عليها وانعكاسات الدخول في مواجهة أوسع نطاقا ضدّ إسرائيل على استقرار سلطتها في تلك المناطق".
واستدرك ذات المصدر بالقول “إنّ انسياق الحوثيين نحو المزيد من التصعيد ضد إسرائيل من عدمه يظل رهن إيران صاحبة التأثير الكبير على قرار الجماعة وسياساتها”، مضيفا أنّ "المشكلة قد تكون في رغبة طهران في التصعيد ودفع ذراعها اليمنية إلى سياسة حافة الهاوية وفقا لمصالحها وحساباتها وفي ضوء صراعاتها ضدّ قوى إقليمية ودولة، وبغض النظر عن التبعات التي ستطال اليمن واليمنيين، بمن فيهم الحوثيون أنفسهم".
وسيرا في ذات المنحى ذكّر محللون سياسيون بأن الحوثيين ظلّوا منذ أشهر يتحدّون ضربات تشنها الولايات المتحدة وبريطانيا ضدّهم، وقد يجدون في الضربة الإسرائيلية حافزا إضافيا للإمعان في التصعيد. وقال ماجد المذحجي رئيس مركز صنعاء للدراسات الإستراتيجية إنّ الضربة التي وجّهتها إسرائيل لمدينة الحديدة ستمنح جماعة الحوثي رصيدا سياسيا وتضفي مشروعية على ادعاءاتها بأنها تخوض حربا مع إسرائيل بما من شأنه أن يجعل الجماعة أكثر استقطابا وسط غضب عارم في اليمن حيال الحرب الدائرة في غزة.