موافقة السلطة الشرعية اليمنية على تهدئة اقتصادية مع جماعة الحوثي تتضمن التراجع عن قرارات كانت قد اتّخذت من قبل الحكومة المعترف بها دوليا ضد القطاع المالي للجماعة، عكست غلبة التوجّه السعودي القائم على التهدئة مع الحوثيين على ما عداه من توجهات لدى أطراف من داخل الشرعية ذاتها كانت قد دعت للتصعيد وحرّضت عليه.
أعلن المبعوث الأممي إلى اليمن هانس غروندبرغ، الثلاثاء، عن توصّل الحكومة اليمنية وجماعة الحوثي إلى اتّفاق بشأن تدابير لخفض التصعيد في ما يتعلق بالقطاع المصرفي والخطوط الجوية.
ويصب الاتفاق بشكل رئيسي في مصلحة الحوثيين المتضرّرين من الإجراءات الحكومية التي تضمنت تضييقات مالية شديدة عليهم، ويمثّل تراجعا من قبل السلطة الشرعية التي يقودها رئيس مجلس القيادة الرئاسي رشاد العليمي بعد ما أظهرته في خطابها السياسي والإعلامي من إصرار على تنفيذ إجراءاتها مشترطة التزام جماعة الحوثي بتطبيق جملة من الشروط مقابل أيّ تراجع أو تعليق لتلك الإجراءات.
لكنّ الاتفاق عكس أيضا رغبة المملكة العربية السعودية ذات التأثير الكبير على قرارات الشرعية اليمنية في التهدئة وخفض التصعيد مع الحوثيين، أملا في الدفع بمسار سلمي في اليمن ينهي الصراع هناك ويخلّص المملكة من عبئه وينهي تأثيراته على الاستقرار في محيطها القريب.
وأظهر الاتفاق بذلك غلبة التوجّه السلمي السعودي على رغبة التصعيد لدى شركاء من داخل معسكر الشرعية اليمنية ذاتها وعلى رأسهم حزب التجمع اليمني للإصلاح ذراع تنظيم الإخوان المسلمين في اليمن، والذين تحمّسوا بشكل كبير للتضييق ماليا على جماعة الحوثي وشنوا حملة تأييد لها في قراراتها ضدّ الجماعة وطالبوها بعدم التراجع عنها وقاموا لأجل ذلك بتحريك الشارع في مظاهرات بكل من مدينتي تعز ومأرب معقل نفوذ الحزب المذكور.
وفي أول تداعيات اتفاق التهدئة الاقتصادية مع الحوثيين قدّم محافظ البنك المركزي التابع للشرعية أحمد غالب المعبقي استقالته من منصبه، معربا في رسالة الاستقالة التي وجهها للعليمي وأعضاء مجلس القيادة عن تفهمه لكون التراجع عن القرارات جاء “استجابة لجهود شقيقة وصديقة لنزع فتيل الأزمة”، ومعتبرا “أن المجلس هو صاحب الكلمة الفصل في قرار الحرب والسلام وكل القضايا المصيرية وهو الأقدر على ترجيح المصلحة العليا للبلاد”.
الاتفاق عكس رغبة السعودية ذات التأثير الكبير على قرارات الشرعية اليمنية في التهدئة وخفض التصعيد مع الحوثيين، أملا في الدفع بمسار سلمي في اليمن
لكنّ مجلس القيادة رفض استقالة المحافظ وقال على لسان مصدر مسؤول في مكتب الرئاسة “إن رئيس وأعضاء مجلس القيادة الرئاسي رفضوا بالإجماع استقالة محافظ البنك المركزي اليمني أحمد غالب المعبقي”، وأن الأخير “عدل عن قرار الاستقالة وهو باق في منصبه بدعم كامل من مجلس القيادة والحكومة لمواصلة جهود الإصلاحات المصرفية الشاملة المدعومة من الأشقاء والأصدقاء”.
وتوجّه المبعوث الأممي في بيان صادر عن مكتبه بالشكر إلى السعودية على “الدور الهام” الذي قامت به في التوسط بالاتفاق.
وتضمّن الاتفاق بحسب ذات البيان “إلغاء القرارات والإجراءات الأخيرة ضد البنوك من الجانبين، والتوقف مستقبلا عن أيّ قرارات أو إجراءات مماثلة”.
كما تضمن “استئناف طيران اليمنية للرحلات بين صنعاء والأردن، وزيادة عدد رحلاتها إلى ثلاث يوميا، وتسيير رحلات إلى القاهرة والهند كل يوم أو بحسب الحاجة”.
وكان المصرف المركزي الذي تسيطر عليه الحكومة اليمنية قد بادر في مايو الماضي إلى وقف المعاملات مع ستة مصارف في صنعاء التي يسيطر عليها الحوثيون، لعدم التزامها بأمر الانتقال إلى عدن.
ونتيجة لذلك لم تعد مكاتب تصريف العملات ووكالات تحويل الأموال والمصارف في المناطق التي تسيطر عليها الحكومة قادرة على العمل مع تلك المؤسسات المالية.
وجاء ذلك امتدادا لصراع الحكومة اليمنية وحكومة الحوثيين غير المعترف بها دوليا للسيطرة على مصارف اليمن، حيث يواجه كلا الطرفين أزمة مالية حادة.
وقال الحوثيون الذين يديرون مصرفا مركزيا في صنعاء ويستخدمون أوراق عملات مختلفة بأسعار صرف مختلفة إن تلك الخطوة كانت محاولة تقف وراءها الولايات المتحدة والسعودية لممارسة ضغوط مالية على النظام المصرفي في مناطقهم.
إعلام فرع جماعة الإخوان في اليمن يتهم السعودية بالإذعان لتهديدات الحوثي والشرعية اليمنية بالارتهان الكامل للرياض
وردّوا حينها بحظر التعامل مع ثلاثة عشر مصرفا في مناطق الشرعية ما يعني أن أولئك الموجودين في المناطق التي يسيطر عليها المتمردون لم يعد بإمكانهم تلقي التحويلات المالية من خلالها أو سحب الأموال وإيداعها.
كما صعّدت قيادات الجماعة من لهجتها تجاه السعودية ووجهت إليها تهديدات مباشرة. وهدد زعيم الحوثيين عبدالملك الحوثي بضرب المطارات والبنوك والموانئ السعودية.
وقال في خطاب له ألقاه في وقت سابق من الشهر الجاري “على السعودي أن يدرك جيدا أنه لا يمكن أبدا أن نسكت على مثل تلك الخطوات الرعناء”، مضيفا “عليهم أن يكفوا عن هذا المسار الخاطئ وإلا سنقابل كل شيء بمثله: مطار الرياض بمطار صنعاء، البنوك بالبنوك، والموانئ بالميناء”.
ووجهت قوى شريكة للشرعية اليمنية غضبها من الاتّفاق الجديد مع الحوثيين صوب الحكومة وشملت الرياض بذلك الغضب. وأوردت وسائل إعلام تابعة للإخوان المسلمين في اليمن عناوين من قبيل “الحكومة ترضخ لضغوط السعودية والأمم المتحدة”، وساقت ملاحظات من نوع “أن هذا الخذلان المتكرر يفقد الحكومة ثقتها بالناس ويجعلها مرتهنة للسعودية في كامل قراراتها”.
كما اتّهم الإعلام الإخواني السعودية بالإذعان لـ”التهديدات التي أطلقها زعيم الحوثيين لها”.
وكانت غالبية القوى المنضوية ضمن معسكر الشرعية قد أيدت الإجراءات المالية الحكومية ضدّ الحوثيين، لكن تأييد الإخوان الممثلين بحزب الإصلاح والهجوم على المبعوث الأممي هانس غروندبرغ بسبب دعوته لتعليقها ولإجراء حوار اقتصادي بين الشرعية والحوثيين بلغت درجة من الحماس أثارت الشكوك في دوافعها.
الاتفاق يصب بشكل رئيسي في مصلحة الحوثيين المتضرّرين من الإجراءات الحكومية التي تضمنت تضييقات مالية شديدة عليهم
واستخدم الإخوان قاعدتهم الجماهيرية في كل من محافظتي تعز ومأرب لتنظيم مظاهرات مؤيدة للإجراءات المالية ضدّ الحوثيين والمطالبة بعدم التراجع عنها.
ورحّبت الحكومة اليمنية بخطوات التهدئة الاقتصادية مع الحوثيين. وقالت في بيان نشرته وكالة سبأ الرسمية إن الموافقة على التهدئة جاءت عملا بمبدأ المرونة في إنفاذ الإصلاحات الاقتصادية والمصرفية الشاملة واستجابة لالتماس مجتمع الأعمال الوطني، وجهود الوساطة الأممية والإقليمية والدولية.
ووصفت موافقتها على إلغاء القرارات المذكورة بأنّها مدخل للتخفيف من معاناة الشعب اليمني، معربة عن أملها في أن يقود الاتفاق المعلن إلى تهيئة الظروف المواتية من أجل حوار بنّاء لإنهاء “كافة الممارسات الحوثية التدميرية بحق القطاع المصرفي والاقتصاد والعملة الوطنية والوفاء بالالتزامات الواردة في خارطة الطريق وعلى رأسها استئناف تصدير النفط”.
وقال مكتب غروندبرغ إنه بعد إبرام الاتفاق الأخير ستعقد الأطراف المتحاربة اجتماعات لمناقشة كافة القضايا الاقتصادية والإنسانية بناء على خارطة الطريق.
وشدد على “ضرورة تعاون الطرفين من أجل التوصل إلى اقتصاد يخدم جميع اليمنيين ويدعم تنفيذ وقف إطلاق النار على مستوى البلاد واستئناف عملية سياسية جامعة”.
ولفت البيان أيضا إلى أن الطرفين اتفقا على تسوية الخلافات حيال الخطوط الجوية اليمنية، الناقل الجوي الوطني في البلاد الذي اتهم الحوثيين بتجميد أمواله المودعة في مصارف صنعاء. وقال إنه سيتم عقد اجتماعات “لمعالجة التحديات الإدارية والفنية والمالية التي تواجهها الشركة”.
ويشهد اليمن أفقر دول شبه الجزيرة العربية نزاعا داميا منذ نحو عشر سنوات بين القوات الموالية للحكومة والمتمردين الحوثيين. وتصاعد النزاع مع تدخل السعودية على رأس تحالف عسكري لوقف تقدّم الحوثيين المدعومين من إيران بعد سيطرتهم على صنعاء.
وكان الحوثيون والحكومة اليمنية قد التزموا في ديسمبر الماضي بخارطة طريق تقودها الأمم المتحدة لإنهاء الحرب، واتفقوا على العمل من أجل استئناف عملية سياسية شاملة. لكن هجمات جماعة الحوثي على سفن في البحر الأحمر والرد الأميركي والبريطاني عليها كانت سببا في تعليق محادثات السلام.