التحرش في اليمن: شهادات صامتة
حتى وقت قريب كان الحديث عن التحرش الجنسي في اليمن -بمختلف أشكاله وأنواعه- يعدّ من التابوهات والمحرمات، إذ توقف ذلك على ردة فعل المجتمع اليمني "المحافظ" الذي يريبه لفظ تحرش في المقام الأول ومنه وإليه يستبعد كل ما يتضمنه التحرش من قصص كثيرة قد يكون فيها إما ناجياً من تحرش أو جانياً. ووصلوا إلى قول مفاده: المجتمع بخير ما دام بعيداً عن لفظ التحرش الدخيل الذي تعززه ثقافة العيب.
"يعرف التحرش الجنسي بأنه سلوك جنسي غير مرغوب فيه يجعل الشخص المتحرَّش به يشعر بالإهانة أو التهديد أو الإذلال، وهو قد يكون واضحاً أو غير مباشر، جسدياً أو لفظياً، كما قد يشمل الأشخاص من الجنس نفسه وليس شرطاً أن يكون ضد شخص من الجنس الآخر".
وبحسب المصادر يتضح أن في عام 2009 عرف المجتمع اليمني أول عملية إحصاء حول نسبة التحرش الجنسي، وهو إحصاء أجراه المؤتمر الإقليمي العربي لحقوق المرأة، المنظم بالتعاون مع برنامج الأمم المتحدة للسكان والوكالة السويدية للتنمية الدولية، جاء في الإحصاء أن 90% من النساء في اليمن تعرضن للتحرش بمختلف أشكاله، سواء في الأماكن العامة أو أماكن العمل.
وعلى الرغم من تلك النسبة العالية التي أظهرتها اللجنة فإن القضية أهملت وقوبلت بالنكران وجرى تجاهلها إعلامياً وقانونياً واجتماعياً، وفي كل الأحوال جرت إدانة الضحية إذا ما أفصحت عما تعرضت له.
لم يقتصر هذا التنميط على المجتمع اليمني وحسب، إنما شمل معظم الدول العربية وغير العربية، حيث توقف الأمر في المقام الثاني عند النساء اللواتي تعرضن للتحرش، وتحفظن مراعاة للحرج، أو فقدان عملهن، أما في اليمن فوصل الحال بالنساء أن رأينه فعلاً كاد يكون طبيعياً وسط مجتمع تسوده سلطة الذكر.
تخاذل قانوني
وما يضيّق الخناق أكثر أمام المرأة اليمنية أنها وإن نالت استحقاقاً تجاه نفسها ورفعت سقف إدراكها بالإفصاح عما تتعرض له، فإن القانون اليمني هو العقبة الرئيسة أمامها، إذ يقف بصف الجناة مجازاً، فالقانون اليمني لم ينص على عقوبات مباشرة ضد المتحرشين، بل اكتفى بتجريم الفعل ونص على غرامة مالية وسجن لمدة أسبوع بعد دفعها.
وبخصوص العقوبات القانونية يقول الاختصاصي القانوني عبد الرحمن الزبيب: لا يوجد تعريف واضح في القانون اليمني للتحرش الجنسي، لكن جرى تعريفه في مصطلحات أخرى (فعل فاضح وهتك العرض).
(275) يعاقب بالحبس مدة لا تجاوز سنة أو بالغرامة كل من أتى فعلاً فاضحاً مع أنثى بغير رضاها، فإذا كان الفعل عن رضاً منها يعاقب الاثنان بالحبس مدة لا تزيد على ستة أشهر أو بالغرامة التي لا تجاوز ألف ريال.
وفي سبيل إعادة النظر في فجوات عقوبة التحرش قانونياً، تقول مديرة إدارة الإعلام في اللجنة الوطنية للمرأة، ماريا راشد، إن اللجنة سعت سابقاً ضمن نشاطها بتقديم مقترحات للبرلمان اليمني لتعديل قانون العقوبات وجعل جريمة التحرش أكثر وضوحاً، إلا أن القائمين على قراراته، حسب قول ماريا، كان لهم بعد آخر، خصوصاً أن الوضع المعيش والحرب صعّبا التعامل مع المقترح بجدية.
فيما واصلت اللجنة التوعية وتسليط الضوء على قضايا المرأة وتثقيفها، بالشراكة مع منظمات المجتمع المدني والمنظمات الدولية. كما أن للجنة فروعاً في جميع المحافظات المحررة. ونفذت اللجنة، بالتزامن مع الحملة الدولية، 16 يوماً لمناهضة العنف ضد المرأة، وتطرقت الحملة لكثير من المشكلات التي تواجه المرأة في اليمن.
متحرش يرتدي ربطة عنق
بقدر قصص التحرش التي تظهر بين فينة وأخرى في الوسط الأكاديمي والجامعات اليمنية خصوصاً، وعادة ما يكون للمتحرش هنا مكانة اجتماعية يتستّر خلفها، بالقدر ذاته تتوقف تلك القصص على الألسنة وتأخذ حقها من الانتشار في نطاق النسوة، وآخر المطاف يطويها النسيان، وتمر دون مساءلة أو وضع حد للجناة، ومنها ما لا يفصح عنها، لكنها في الحالتين تبقى كابوساً ووحدها المرأة من تدفع ضريبته.
"سمية" (اسم مستعار) لطالبة جامعية في مرحلة البكالوريوس. تقول: "منذ خامس يوم لي وسط الجامعة، وأنا أشعر بمضايقات وتلميحات كثيرة من عميد الكلية، مرات يفتح معي موضوعات لا شأن لي بها، صح في البداية كنت ما أرتاب واعتبرها تواضعاً منه، رغم أن جرأته ونظراته كانت تكهربني".
تضيف سمية: كان يقترب لدرجة أني ألصق نفسي في الجدار، أما الذي فاجأني فحين عرض علي فرصة عمل، سكرتارية في مكتبه مقابل 40 ألف ريال، وحين رفضت وتعذرت بأن أسرتي لم توافق، أرسل إلي دكتوراً يقول لي بأن العميد سيمنحني فرصة لدراسة الماجستير، وبكل رسالة كان يزيد الراتب حتى 60 ألفاً، وكل ذلك مقابل أن أوافق على العمل".
وعن شعورها تقول: "أن تتعرض المرأة اليمنية للتحرش في الشارع ومواصلات النقل ثم يلاحقها إلى مبنى أكاديمي يفترض منه أن يكون نموذجاً للرقي والأخلاق فهذه مشكلة كبيرة تجعل المرأة تشك بنفسها وبكل النظرات والتعاملات بين الجنسين مهما كانت طبيعية"، والأسوأ من هذا تقول إنها أحست بمعاناة المرأة في المجتمع اليمني، وخاصة حين يضعها الواقع والعوز أمام مقايضة بحياتها مقابل مبلغ ما.
موقف سمية استنهض بداخلها أسئلة كثيرة، منها حسب قولها "رجعت أسأل نفسي ليش أنا بالذات من بين عشرات الطالبات تقصدني العميد، ما قدرت أستوعب أن شكلي وحده هو مؤهلي الوحيد بنظره، وفكرت بالنساء اللواتي يعملن في مبنى الكلية، إذا كن مررن بتجربتي، وإذا ما كن توظفن بالطريقة ذاتها؟".
تقول الاختصاصية النفسانية، وفاء سعيد، إن الناجية من التحرش تدخل في دوامة من الأزمات "ما بعد الصدمة" منها ما يظهر مباشرة وبعضها يكمن بحسب نفسية الناجية، أبرزها تدني تقدير الذات، أفكار واعتقادات خاطئة بأن المجتمع ينظر لها بدونية واحتقار، هلع وخوف إلى جانب قلق وعزلة، ثم اكتئاب.
وفاء (اسم مستعار) امرأة متزوجة مات زوجها قبل عامين، تعيش وفاء في ريف ناءٍ شمالي مدينة تعز برفقة أمها، وفاء لم تكمل دراستها، ولم تفكر في يوم أن تعمل خارج البيت، لكن في عام 2019 ذهبت إلى مشفى صغير في قريتها بقصد أن تجد فرصة عمل، قصدت المشفى كونه حظي بدعم من منظمة خارجية، ووفر فرص عمل لمن يمتلكن مؤهلاً علمياً، تقول وفاء: حين عرضت على المسؤول في المشفى رغبتي بالعمل تعلل بأن المشفى لا يستوعب أكثر من العمال الموجودين فيه. لكن أخبرتني إحدى الموظفات أن أذهب إلى شيخ المنطقة وأخبره بقصتي، تضيف وفاء، ذهبت مع والدتي إلى منزل الشيخ الذي بادر بعد أول دعوة من والدتي إليه بأن يحفظه الله، وفي اليوم الثالث تواصل معنا الشيخ وذهبت للعمل في المشفى بتوصية منه وتركت أبنائي مع والدتي، في الأسبوع الأول تقول وفاء وجدت نفسي غير قادرة على تأدية أي مهمة باستثناء تزويد المشرف على المختبر ببعض الأمور العادية، أما حين كنت أُسأل من الكادر الطبي هناك عن سبب قدومي فكنت أصمت، ومرات يخبرهم مسؤول المختبر أني جئت بتوصية من الشيخ الفلاني، وهنا لا أخفي تلك الضحكة التي يبدونها بسماعهم ذلك، وفي الأسبوع الرابع تقول وفاء: جاء الشيخ إلى المشفى، وعلى انفراد سألني عن العمل إن كان مناسباً، وأخبرني بأنه تحدث إلى المشرفين في المشفى كي يعاملوني معاملة حسنة، وأخبرني أخيراً بأن أمر على منزله بعد انتهاء الدوام ومضى، تضيف وفاء: أكملت الدوام الساعة الواحدة ظهراً، ومررت على منزل الشيخ رغم أن المسافة بعيدة نوعاً ما، لكن كان في نفسي أني سأتقاضى أول راتب، عندما وصلت كان الشيخ في النافذة، وبدلاً من الباب الرسمي لمنزله حيث أسرته، أشار إليَّ بأن أدخل من الباب المحاذي، حيث مجلسه الذي دخلته مع أمي في المرة السابقة، كان وحده تراجعت وتكلمت معه وعيني على الباب، بإمكان أي امرأة أن تشعر بفطرتها وتتصرف مثلي في موقف كهذا، وفي الأخير خرجت من منزله، بعد أن سمعت أقذع العبارات، وإن كانت مبطنة بوعود ومقايضات تجارية من قبيل الزواج، وانتبهت بأني كنت بنظره قطعة لحم لم يجد فرصة مناسبة لالتهامها".
نسب تحرش متفاوتة.. بين مبنى حكومي ومبنى خاص
منال.. امرأة في عقدها الثالث والنصف، تعمل في بنك أهلي في العاصمة صنعاء، تقول منال: "أنا أعمل منذ مطلع عام 2018، لكن حقيقة وإلى اليوم لم يسبق لي أن مررت بتجربة أو صادفت لفظاً أو إشارة قد تندرج ضمن تحرش في مكان عملي، لكنني أسمع قصصاً كثيرة لزميلات يتعرضن للتحرش، معظمهن يعملن في مبانٍ حكومية".
وتستخلص منال وفق تجربتها أن بيئة العمل الحكومية تسهم كثيراً في تفشي ظاهرة التحرش، حيث الرقابة تكون متدنية، بالمقارنة بأماكن العمل في القطاع الخاص. وتضيف: هذا لا يعني أن موظفي المؤسسات الخاصة بمنأى عن التحرش، لكن ما قصدته أن القوانين والعقوبات والرقابة تسهم إسهاماً كبيراً في تعزيز الوعي، وتحد من ظاهرة التحرش، ولو كان منوطاً بالخوف.
طبيب متحرش
وتعود منال بذاكرتها قليلاً إلى الوراء، بداية عقدها الثاني، تقول: "ذهبت مرة إلى طبيب أسنان غرب المدينة، لحظتها لم تكن العيادات كثيرة كما اليوم، دخلت إلى غرفة الطبيب وأثناء جلوسي على الكرسي، ترك الدكتور الأداة التي كان يعمل بها، وحط يده على صدري، لحظتها أبديت ردة فعل وصرخت بوجهه وتركت العيادة".
لم تشتكِ منال الطبيب لتحرشه بها في عيادته، ولم تخبر أسرتها، كل ما فعلته أنها أخبرت صديقتها ومنذ تلك الحادثة أصبحت تفضل زيارة عيادات النساء، حسب تعبيرها.
تشير منال إلى أنها في ذلك الوقت لم تكن تملك وعياً كافياً على المستوى الشخصي، وأنها لو كانت تحدثت مع إخوتها بشأن ذهابها إلى طبيب فهذا وحده سيفتح أمامها أعين الريبة فما بالك لو أخبرتهم بما حصل.
أفراح ناشطة وإعلامية يمنية، تبلغ من العمر 26 عاماً، تقول أفراح: "قبل عامين أثناء تغطيتي مؤتمر أقيم في مدينتي، ذلك اليوم تعرف إليَّ خبير دراسات استراتيجية، كان عمره في الخمسينيات تقريباً، بعد حديث عادي معه أخبرني بأنه افتتح مؤسسة تُعنى بالعمل الإنساني، وعرض عليَّ فرصة عمل وطلب مني زيارة مكتبه، لكنني فوجئت بأن مكتبه لم يكن سوى شقة في عمارة، لكن الصدمة الكبيرة، حين اقترب مني وحاول ملامستي والاعتداء عليَّ". وتختتم أفراح بلهجة محلية: "طلع لا يشتي عمل ولا هم يحزنون". عندما سألنا أفراح إذا ما كانت اشتكت المتحرش، فكل ما قالته أنها حمدت الله أنها نجت بنفسها.
وهنا تضيف الاختصاصية النفسانية وفاء صالح أن الوعي وتعزيز المرأة بالنصائح لا يكفي، بقدر ما يحتاج الأمر إلى خطط مستدامة ومستقبلية، وفتح خطوط ساخنة لاستلام مكالمات الناجين من التحرش، وإقامة جلسات نفسانية مكثفة، وقبل كل هذا تبقى المدارس والتمسك بالقيم ومنح الأبناء ثقة كبيرة كي يفصحوا عما تعرضوا له.
لماذا تخاف المرأة اليمنية من الإفصاح عند تعرّضها لمثل هذه القصص؟
عائشة صالح، ناشطة مهتمة بقضايا المرأة، تجيب بأن العائلة هي السبب الأول، وأحياناً يأتي العنف منها، بغض النظر عن المسميات، ويليها القانون، وهو آخر محاولة يمكن اللجوء إليها عند تعرض المرأة للعنف والتحرش.
وتقول صالح: إن المرأة اليمنية لن تخرج مما تعانيه ما لم تؤمن بأن ما تتعرض له يعد تجاوزاً لماهيتها ودورها في المجتمع، وفي حال وجود نماذج وقصص لنساء يمنيات انتصرن لقضيتهن وما يتعرضن له على مستوى القضاء وإدانة الجناة، هنا ستتخلى المرأة اليمنية عن الصمت. لكن متى سيكون هذا؟
ملاحظة: حاولنا التواصل مع أكثر من جهة قانونية للحصول على معلومات أو إحصاء حول نسب القضايا التي وصلتها بخصوص التحرش الجنسي. لكن مع الأسف لم نرَ أي رد حتى إكمال المادة.