يظلّ اليمن والتحولات التي شهدها، منذ خروج علي عبدالله صالح من السلطة في شباط – فبراير 2012، لغزا كبيرا. زاد الوضع تعقيدا واللغز عمقا منذ سيطرة الحوثيين، أي إيران، على صنعاء في 21 أيلول – سبتمبر 2014. يتصرف الحوثيون بطريقة توحي بأنّ مصير اليمنيين المقيمين في مناطقهم آخر همّ لديهم. المهم بالنسبة إلى هؤلاء، وإلى إشعار آخر، خدمة الأجندة الإيرانية والمشروع التوسعي الإيراني اللذين لا أفق سياسيا لهما من جهة وتأكيد أنّ “الجمهوريّة الإسلاميّة” باتت تمتلك موطئ قدم في شبه الجزيرة العربيّة من جهة أخرى.
انشغل العالم طوال سنوات عمّا يفعله الحوثيون في مناطق سيطرتهم، أي شمال اليمن. لم يكن شمال اليمن يوما، على العكس من جنوبه، موضع اهتمام دولي ذي طابع جدّي.
يستفيد الحوثيون، الذين يسمّون أنفسهم “جماعة أنصارالله” والذين كانوا وما زالوا، على علاقة وثيقة قديمة جدّا مع “حزب الله” في لبنان، من نقاط قوّة عدّة. في مقدّم هذه النقاط عدم وجود بنك أهداف لدى القوى الغربيّة والإقليمية التي تحاول التصدي لهم. لم تستفق هذه القوى على خطر الحوثيين سوى بعد أحداث غزّة التي بدأت في السابع من تشرين الأوّل – أكتوبر 2023 عندما قرّرت إيران زج هؤلاء في حروبها. شنت “الجمهوريّة الإسلاميّة”، مباشرة بعد “طوفان الأقصى”، سلسلة من الحروب استهدفت منها توجيه رسالة واضحة إلى الولايات المتحدة. فحوى الرسالة أنّها تمتلك قرار توسيع الحرب التي بدأتها “حماس” والقدرة على ذلك… وأن المطلوب عقد صفقة معها تفاديا لجعل حرب غزّة تشمل المنطقة كلّها.
◄ سيأتي دور اليمن والوجود الإيراني فيه يوما. لا يبدو العالم الغربي في عجلة من أمره، خصوصا أنّ اليمن الشمالي لم يهمّه يوما… بل كان همّه دائما في الجزء الجنوبي
فشلت إيران في الحروب التي شنتها، لكنّ اللغز اليمني باق على حاله. ارتدّت هذه الحروب الإيرانيّة على قطاع غزّة نفسه الذي أزالته الوحشية الإسرائيلية من الوجود. في لبنان تلقّى “حزب الله” الذي فتح جبهة الجنوب ضربة قويّة لم يستفق منها بعد. لولا تلك الضربة، لكان الفراغ الرئاسي مستمرّا، ولكانت رئاسة الجمهوريّة اللبنانيّة لا تزال رهينة لدى إيران. بكلام أوضح، لولا الضربة التي تلقاها “حزب الله”، لما كان قائد الجيش العماد جوزيف عون في قصر بعبدا الذي بقي شاغرا طوال سنتين وشهرين.
كان الفشل الإيراني الأكبر في سوريا التي كان النظام العلوي فيها برئاسة بشّار الأسد مجرّد تابع لـ”الجمهورية الإسلاميّة”. أمّا العراق، فقد سعى، أقلّه ظاهرا، إلى التملّص من السيطرة الإيرانية المباشرة أو غير المباشرة عن طريق ميليشيات “الحشد الشعبي”. إنّها ميليشيات يتحكّم بها بطريقة أو بأخرى “الحرس الثوري” الإيراني. لا يستطيع رئيس الحكومة محمّد شياع السوداني اتخاذ موقف واضح من “الحشد”، موقف يؤكّد أنّ لا مجال لتكرار تجربة “الحرس الثوري” الإيراني في العراق. من الآن إلى أن يخرج العراق من تحت الهيمنة الإيرانية، لا بدّ من ملاحظة أنّ حماسة ميليشيات “الحشد الشعبي” لـ”إسناد غزّة” خفّت كثيرا، بل باتت شبه معدومة.
لم يبق سوى جزء من اليمن يخوض منه الحوثيون آخر الحروب الإيرانية دعما لغزّة. سيأتي يوم تتوقف فيه هذه الحرب أيضا والتي أضرّت بحركة الملاحة في البحر الأحمر والتي لم تلحق أذى يذكر بإسرائيل. كلّ ما في الأمر أن الخسائر الكبرى لحقت بمصر حيث هبط الدخل الذي كانت تؤمّنه لها حركة الملاحة عبر قناة السويس. يبدو الخيار الوحيد أمام الحوثيين التراجع والسعي إلى صفقة مّا تحافظ على وجود لهم في شمال اليمن الذي باتوا يعتبرونه مملكة خاصة بهم.
ليس غياب بنك الأهداف وحده الذي يجعل من الصعب القضاء على الحوثيين عبر سلاح الجو الأميركي والإسرائيلي والبريطاني. هناك أيضا طبيعة الأرض في اليمن التي تسمح للحوثيين بإخفاء ما لديهم من صواريخ في أماكن يصعب تحديدها بدقة. في النهاية، الأولوية بالنسبة إلى الحوثيين حكم منطقة محددة في اليمن والسيطرة على أهلها وتغيير طبيعة المجتمع في تلك المنطقة التي كانت تسيطر عليها القيم القبلية، وهي قيم تبقى راسخة في بلد مثل اليمن… ولا بدّ من أن تعود إلى الحياة يوما.
◄ لم يبق سوى جزء من اليمن يخوض منه الحوثيون آخر الحروب الإيرانية دعما لغزّة. سيأتي يوم تتوقف فيه هذه الحرب أيضا والتي أضرّت بحركة الملاحة ولم تلحق أذى يذكر بإسرائيل
في مواجهة الوضع القائم، أي بقاء القرار في اليمن الشمالي في يد الحوثيين، سيعتمد الكثير على ما إذا كانت على الأرض اليمنية قوى محلّية مستعدة للتحرّك في مواجهة هؤلاء. لا شكّ أنّ “الشرعية” اليمنية، بقيادة الدكتور رشاد العليمي في حاجة إلى أخذ المبادرة واختراق الخطوط العسكرية القائمة، بما في ذلك على جبهة الحديدة. مثل هذا الاختراق يمكن أن تكون له نتائجه، خصوصا في حال قرّرت القوى الغربيّة التنسيق مع القوى المناهضة للحوثيين الموجودة على الأرض.
عاجلا أم آجلا، سيتغيّر الوضع في اليمن. يؤخّر ذلك أن العالم الغربي غير مستعد للذهاب بعيدا في مواجهة الحوثيين بطريقة فعالة. يدفع هذا العالم ثمن تهاونه مع “جماعة أنصارالله” وذلك منذ سنوات عدّة عندما منع سقوط ميناء الحديدة في العام 2018 وقرّر بدل ذلك عقد اتفاق ستوكهولم مع تلك الجماعة التي ليست سوى أداة إيرانيّة. هل جاء دور التغيير في اليمن الآن بعدما اكتشف العالم خطأ استرضاء الحوثيين؟ الجواب أنّ العالم يستطيع الانتظار ما دام الأذى الذي تلحقه إيران، عبر أداتها اليمنية، لا يزال محدودا… وما دام الطرف الذي يعاني هو الشعب اليمني.
سيأتي دور اليمن والوجود الإيراني فيه يوما. لا يبدو العالم الغربي في عجلة من أمره، خصوصا أنّ اليمن الشمالي لم يهمّه يوما… بل كان همّه دائما في الجزء الجنوبي من البلد الذي لديه ساحل طويل يمتد من بحر العرب… إلى ميناء عدن وميناء المخا الذي يتحكّم بباب المندب مدخل البحر الأحمر وبالتالي قناة السويس!
يبقى أنّ الحاجة في كلّ وقت إلى التعاطي مع لغز يمني يتمثل في أهمّية الجنوب بالنسبة إلى العالم في مقابل العزلة النسبية التي عانى منها الشمال عبر التاريخ.