لم تستطع موسكو حسم الصراع في سورية عسكرياً لصالح النظام، الذي استنجد بها في العام 2015 بعد تلقيه ضربات متتالية من فصائل المعارضة السورية التي حققت في ذلك العام نجاحات عسكرية فتحت لها الطرق إلى العاصمة دمشق، لولا التدخل الروسي في سورية في ذلك العام. كما أن موسكو فشلت بعد تدخلها العسكري و"الوحشي" بسورية، في فرض تسوية سياسية وفق رؤيتها، بعيداً عن القرارات الدولية ذات الصلة، إلا أنها باتت اليوم رقماً صعباً، في المعادلتين السياسية والعسكرية في المشهد السوري المتأزم.
التدخل الروسي في سورية يبدّل الموازين..
كان يوم 30 سبتمبر/أيلول 2015 بداية التحول الكبير في مجرى الصراع في سورية، بعد فشل النظام وحلفائه الإيرانيين في إيقاف تقدم فصائل المعارضة السورية من جهة وتنظيم داعش من جهة أخرى، ما وضعه أمام سيناريوهات صعبة دفعته إلى الاستنجاد بموسكو التي وجدت أن الفرصة مؤاتية للتمركز في شرقي المتوسط، وفرض نفسها لاعباً مهماً في مجريات النزاع المحتدم في سورية ومواصلة مناكفة الغرب من مواقع متقدمة.
حصلت روسيا على قواعد عسكرية برّية وبحرية وجوية في سورية..
ومنح النظام موسكو مطار حميميم في ريف اللاذقية غربي البلاد، ليكون مقراً ومنطلقاً لعمليات الجيش الروسي بعد التدخل في سورية الذي بدأ أولاً بقصف ريف حمص الشمالي في منطقة تلبيسة، معلناً التدخل المباشر في الصراع لصالح النظام الذي لم يعد منذ ذاك التاريخ يملك القرار في أغلب ملفات القضية السورية، خصوصاً قرارا الحرب والسلم.
وسّعت موسكو "حميميم" ليكون واحداً من أكبر القواعد الروسية في الخارج، بحيث باتت تضم مرابض للطائرات، ومدارج مخصصة للهليكوبتر، ومواقف للعربات العسكرية واللوجستية.
ومكّنت عمليات التوسعة التي قام بها الروس على مدى السنوات الماضية المقاتلات الروسية المتطورة وطائرات الشحن العسكري العملاقة من استخدام المطار للإقلاع والهبوط.
كما نشرت موسكو في القاعدة خلال عامي 2015 و2016 منظومة دفاع جوي من طراز إس 400، وهي المنظومة الدفاعية الأكثر تطوراً لدى سلاح الجو الروسي.
وتحت غطاء ناري مكثف و"متوحش"، استطاعت قوات النظام والمليشيات الإيرانية بعد التدخل الروسي، التحرك مجدداً على الأرض على جبهات القتال مع فصائل المعارضة السورية، التي لم تستطع مجابهة التفوق الروسي فاضطرت إلى التراجع شيئاً فشيئاً، حتى فقدت أغلب المناطق التي كانت تسيطر عليها في أرياف اللاذقية وحمص وحماة. كما خرجت هذه الفصائل أواخر عام 2016 من أحياء حلب الشرقية التي كانت محاصرة بعد قصف روسي استهدف كل شيء فيها. وفي عام 2018 أجبر الروس فصائل المعارضة على الخروج من غوطة دمشق الشرقية ومن درعا جنوبي سورية، إلى الشمال عبر تسويات هشة لم تصمد طويلاً.
وفي الربع الأخير من عام 2019، والربع الأول من عام 2020، منح الروس قوات النظام والمليشيات الإيرانية غطاء نارياً مكثفاً، ما سمح لها باستعادة كامل ريف حماة الشمالي وريف حلب الجنوبي، والجزء الأكبر من ريف حلب الغربي، وقسماً واسعاً من ريفي إدلب الجنوبي والشرقي، ما أدى إلى نزوح أكثر من مليون مدني إلى الشمال. وفي مارس/آذار 2020، وقّع الروس والأتراك ما عُرف باتفاق موسكو الذي ثبّت وقفاً لإطلاق النار في شمال غربي سورية ما يزال سارياً حتى اللحظة.
ولم تكتف موسكو بدعم قوات النظام والمليشيات الإيرانية، بل وفّرت لوحدات حماية الشعب الكردية مطلع عام 2016 غطاء نارياً للسيطرة على بلدات وقرى في ريف حلب الشمالي، بسبب إسقاط الجانب التركي طائرة روسية أواخر عام 2015، قرب الحدود السورية التركية فوق جبل التركمان بمحافظة اللاذقية. وفي عام 2016، حاول الروس تبرير تدخلهم في سورية من خلال الادعاء بمحاربة "داعش" في البادية السورية، حيث ساعدوا المليشيات الإيرانية في السيطرة على مدينة تدمر الأثرية، لتضع موسكو بعد ذلك يدها على ثروة سورية من مادة الفوسفات المنتشرة في هذه البادية.
واستغل الروس الخوف الكردي من تركيا في عام 2019 للتمدد شرقي نهر الفرات، حيث مكّنهم اتفاق عسكري مع قوات سوريا الديمقراطية (قسد) التي لجأت إلى موسكو لوضع حدّ لعملية عسكرية تركية، من إنشاء قواعد وأماكن تمركز عدة في محافظة الحسكة وفي ريف عين العرب شمال شرقي حلب. وعلى الرغم من مرور تسع سنوات على التدخل الروسي، ما يزال النظام عاجزاً عن استعادة مساحات واسعة من الجغرافيا شمال غربي البلاد، حيث تقع إدلب وبعض محيطها تحت سيطرة "هيئة تحرير الشام" (جبهة النصرة سابقاً). كما تسيطر فصائل المعارضة على جانب مهم من ريف حلب الشمالي ومنطقتين في شرق الفرات، فضلاً عن سيطرة "قسد" على الشمال الشرقي من سورية الغني بالثروات.
أهداف تتحقق وإخفاقات..
بيّن الباحث في مركز جسور، رشيد حوراني، في حديث مع "العربي الجديد"، أنه "من خلال التدخل الروسي في سورية منذ 2015، حققت موسكو أهدافاً سياسية وعسكرية عدة".
وأوضح أن أبرز هذه الأهداف هو تقليص مساحة الجغرافيا التي كانت تسيطر عليها المعارضة المسلحة، كما أمسكت موسكو بالقرار العسكري للنظام من ناحية اتخاذ القرار بشنّ عمل عسكري من عدمه.
وأشار إلى أن روسيا "فشلت في إعادة هيكلة جيش النظام رغم محاولاتها المتكررة"، إلا أنها "تمكنت من توظيف تدخلها العسكري واستخدامه ورقةً تفاوضية في ملفات خارج سورية كما هو الحال بينها وبين تركيا، وبينها وبين الولايات المتحدة".
وأوضح حوراني أن التدخل الروسي في سورية "مكّن موسكو من ترسيخ وجودها البحري في البحر الأبيض المتوسط وإجراء المناورات البحرية المتكررة رغم انقطاعها منذ العام 1982"، لافتاً إلى أنه "خلال شهر سبتمبر/أيلول الحالي، أجرت القوات الروسية مناورات بحرية على سواحل طرطوس بمشاركة ثلاثة أساطيل".
من جهته، قال المحلل السياسي المختص بالشأن الروسي، طه عبد الواحد، لـ"العربي الجديد"، إن التدخل الروسي في سورية حقّق لموسكو أهدافاً مهمة للسياسة الروسية في الشرق الأوسط، خصوصاً لجهة استعادة المكانة بوصفها قوة تتمتع بتأثير إقليمياً ودولياً".
وأضاف: "أصحاب القرار في روسيا يعتبرون تمكنهم من مساعدة النظام السوري على البقاء، واحداً من الإنجازات الرئيسية للتدخل العسكري الروسي، أما الإنجاز الثاني، فهو الحصول على قواعد عسكرية برّية وبحرية وجوية روسية في سورية، التي تتميز بموقع في غاية الأهمية بكل الأبعاد، اقتصادياً وسياسياً وعسكرياً".
وأشار عبد الواحد إلى أن "موسكو تضع في الاعتبار أن سورية ربما تصبح عقدة مهمة لعبور شبكات أنابيب الغاز والنفط من منطقة الخليج العربي إلى الأسواق الأوروبية بحرياً وبرياً"، مضيفاً أن "روسيا أعلنت من خلال التدخل عن نفسها قوة سياسية فاعلة في منطقة الشرق الأوسط، لا تتخلى عن شركائها، وتقدم لهم كل الدعم في مواجهة التهديدات"، وبهذا نجحت وفق قوله "في رسم صورة شريك محتمل لدول المنطقة، أكثر موثوقية ومصداقية من الغرب".
وتابع: "حصلت موسكو بعد التدخل الروسي في سورية على القاعدة البحرية على المتوسط، فضلاً عن قاعدة جوية وقواعد برّية على الأراضي السورية، ما سمح لها بتعزيز نفوذ أساطيلها البحرية على الحدود البحرية الجنوبية لدول حلف شمال الأطلسي (ناتو)، وتعزيز نفوذها شمال أفريقيا، وجعل منها قوة لها تأثير في مناطق النفوذ الأميركي لا سيما في العراق ودول الخليج العربي".
في المقابل، رأى عبد الواحد أن موسكو فشلت في إنجاز تسوية سياسية للأزمة السورية، معرباً عن اعتقاده بأن الاهتمام الروسي بالتسوية "حقيقي".
وأضاف: "موسكو تريد استعادة الاستقرار في سورية لأنه يضمن استقرار نفوذها في البلاد".
وتابع: "إنجاز التسوية السياسية سيعطي روسيا دفعة إيجابية إضافية وكبيرة في ما يخص ترسيخ سمعتها بصفتها شريكاً سياسياً يسعى إلى تسوية الأزمات في المنطقة بالطرق السياسية".
وأشار إلى أن المساعي الروسية على هذا الصعيد "لم تتوقف"،
مضيفاً: "تعثر مساعي تسوية الأزمة السورية، بما في ذلك تلك التي تقودها روسيا، يعود إلى مواقف النظام السوري، الذي يبدو أنه غير مهتم بأي تسوية سياسية، بل يبدو غير راغب في تحقيق المساعي الروسية لتطبيع العلاقات بين دمشق وأنقرة".