على بعد أكثر من 1500 كيلومتر (900 ميل) عن لندن يسير العمل على قدم وساق في ريف بولندا وفنلندا ودول البلطيق، إذ تقوم الجرافات والحفارات بتشييد دفاعات ميدانية. وتحفر الخنادق المضادة للدبابات، وتوضع مصائد الدبابات، وتنشأ مواقع ودشم محصنة. وتدرس كل هذه الدول بجدية مسألة زرع حقول ألغام - حتى حقول الألغام الجدلية المضادة للأفراد.
وتنفق بولندا حالياً 2.5 مليار يورو في الأقل (2.1 مليار جنيه استرليني) على نظام دفاع حدودي يشمل بناء نظام درع جوي شبيه بـ"القبة الحديدية" في إسرائيل لحماية حدودها الشرقية من الخطر الروسي المتنامي.
في مايو (أيار) خلال اجتماع مع القادة الأوروبيين في وارسو قال رئيس الوزراء البولندي دونالد توسك، "من الضروري بناء قبة حديدية مضادة للصواريخ والمسيرات... لا سبب يمنع أوروبا من إقامة درع دفاعية مضادة للصواريخ"، مؤكداً أن العمل على المشروع قد بدأ بالفعل. وأضاف أنه لا يتطلب كثيراً من الجهد الفكري كي يفهم المرء أن أوروبا مثل إسرائيل، وسط منطقة الخطر.
ويشمل مشروع الدفاع البولندي نصب عوائق مضادة للدبابات ومخابئ محصنة وتكنولوجيا مضادة للمسيرات تعمل بالذكاء الاصطناعي بغية إنشاء أنظمة كشف ورصد مبكر للتهديدات. وقد يكون هذا أكبر استثمار تقوم به البلاد في مجال الأمن القومي بعد الحرب العالمية، وهو ما يضع بولندا في موقع الصدارة في مجال الدفاع الأوروبي.
وتنفق بولندا اليوم 37 مليار يورو (30 مليار جنيه) على مجال الدفاع بصورة عامة - أي ما يعادل 4.7 في المئة من إجمالي ناتجها المحلي - وتدرس إمكانية زيادة هذه النسبة. وفي هذه الأثناء رداً على تكتيك "الحرب الهجينة" على جبهات عدة في البلطيق، تستثمر دول البلطيق مئات ملايين اليورو لتعزيز خطوط الدفاع من خلال مشروع ضخم آخر خططت له دول أعضاء في "الناتو" هي إستونيا ولاتفيا وليتوانيا، ومن المفترض أن ينطلق في 2025.
وتنفق معظم مناطق أوروبا الشمالية أكثر من مليار يورو على عجل على بناء مصانع جديدة لإنتاج الذخيرة، ولا سيما القذائف المدفعية من عيار 155 ملم التي تطلقها أوكرانيا بمعدلات لم نشهد لها مثيلاً منذ الحرب العالمية الثانية.
كيف تستجيب المملكة المتحدة في المقابل للخطر العالمي المتزايد؟ يستغني البلد عن معدات عسكرية بقيمة 500 مليون جنيه - من سفن ومسيرات وطائرات مروحية - ويعتزم القيام بمراجعة شاملة للدفاع الاستراتيجي كي يقرر خطواته القادمة.
وفيما أقر وزير الدفاع جون هيلي هذا الأسبوع بأن التخفيضات والاقتطاعات تحصل وسط "حرب في أوروبا وتزايد العدوان الروسي وصراع في الشرق الأوسط"، لن ينتهي الاستعراض الدفاعي الاستراتيجي قبل نهاية فبراير (شباط) 2025 - إن كان الحظ حليفنا. ويشير البعض إلى أن البيروقراطية في وايتهول قد تتسبب في تأجيله حتى الصيف.
وفي هذه الأثناء يداهمنا الوقت. تجمع دول شمال أوروبا - الديمقراطيات الليبرالية التي تثير الإعجاب بسبب نوعية الحياة فيها والخدمات التي تقدمها - على هذه النقطة: إذا خسرت أوكرانيا صراعها مع روسيا، قد تتشجع الأخيرة لشن عمل عسكري ضد دول البلطيق، وفنلندا أو حتى بولندا.
ويجمع خبراء عدة على أن الفترة الزمنية المتوقعة لهذا الفعل تراوح ما بين ثلاث وخمس سنوات. وفي عالم التخطيط الدفاعي، هذا يعني غداً تقريباً. حتى لو جرى العمل بأقصى سرعة، فما زال طلب وتسلم طائرة حربية يحتاج بين 28 و30 شهراً، مقابل 18 إلى 24 شهراً للدبابة و30 شهراً للفرقاطة.
وبعيداً من الأعمال الجارية في غرب أوروبا، تزداد موازنات الدفاع كذلك. يتزايد الإنفاق الفرنسي على قطاع الدفاع منذ ثمانية أعوام، ومن المتوقع أن يتخطى المملكة المتحدة على أساس المثل بالمثل بحلول عام 2027. أما هولندا، فقد تراجعت منذ سنتين عن سياسة التخفيضات الدفاعية التي اتبعتها على مدار عقود، وتخطط لمضاعفة موازنتها في هذا المجال في غضون خمس سنوات. ومن ناحيتها تزيد السويد والنرويج والدنمارك إنفاقها على مجال الدفاع أيضاً، وغالباً ما تبلغ هذه الزيادة نسبة عشرية من سنة إلى أخرى.
وقد استيقظ عملاق الدفاع الأوروبي بدوره. رفعت ألمانيا، إحدى أولى الدول التي قلصت إنفاقها الدفاعي بصورة جذرية في أعقاب الحرب الباردة، موازنتها العسكرية بنسبة الثلثين منذ غزو روسيا للقرم في 2014.
والأهم أن غزو أوكرانيا في 2022 خلق نقطة تحول، فتعهد المستشار الألماني أولاف شولتز فوراً باستثمار 100 مليار يورو لمعالجة الفجوات في الذخيرة والمعدات.
ومنذ ذلك الوقت، أنفقت برلين بين 30 و40 مليار يورو على طائرات حربية أميركية من طراز "أف-35 آي" وأنظمة أخرى، فيما خصصت ما يفوق 60 مليار يورو للذخيرة والصواريخ منذ فبراير 2022.
وبالعودة إلى أوروبا الشرقية: بالنسبة إلى هذه الدول، لا يعد الدفاع "إضافة لطيفة"، بل ضرورة ملحة. وقد ضاعفت هذه الدول إنفاقها في المجال العسكري مرتين أو ثلاث مرات خلال السنوات الخمس الماضية. لماذا إذاً تبدو المملكة المتحدة الآن أقرب إلى متقاعس أوروبي منها إلى قائد أوروبي؟
أحد أهم الأسباب هي ما أسميه "غطاء الـ1700 كيلومتر". فقبل الوصول إلى المملكة المتحدة، على روسيا أن تمر عبر دول البلطيق وفنلندا وتعبر بحر البلطيق، وتواجه ألمانيا والسويد والدنمارك والنرويج، ثم تعبر بحر الشمال.
عند سؤاله عن خطر تعرض المملكة المتحدة لهجوم صاروخي، لاحظ وزير الدفاع السابق غرانت شابس بصورة عرضية أن حلفاء "الناتو" سيتعاملون مع هذا النوع من التهديدات لأن دولهم تقع بين المملكة المتحدة وروسيا، مما يشير إلى أنه أيضاً أحد المؤمنين بـ"غطاء الـ1700 كيلومتر" الذي تستمر المملكة المتحدة بالتماس الدفء تحته.
لكن الخطر يقترب أكثر فأكثر. هذا الأسبوع أثارت أحداث تتعلق بتضرر كابلات اتصالات الإنترنت في بحر البلطيق مخاوف من عملية تخريب روسية. ويعتقد أن الروس يخططون لوضع أجهزة حارقة على متن طائرات الشحن التجارية في أوروبا، لفحص أنظمة الأمن، ويعتقد مسؤولو الاستخبارات الغربية أن روسيا هي المسؤولة عن اشتعال حرائق خلال الصيف الماضي في مراكز الشحن في بريطانيا وألمانيا.
ويرى كثر بأنها مجرد مسألة وقت قبل أن يصل انقطاع التيار الكهربائي إلى المملكة المتحدة بسبب أعطال غامضة في كابلات محطات طاقة الرياح، أو قبل أن تتعطل الإنترنت لدينا مع تعطل العمود الفقري للاتصالات.
إن المملكة المتحدة عاجزة في الواقع عن الدفاع عن نفسها وصد أشكال كثيرة من الهجمات المعاصرة. اعترف رئيس أركان الدفاع الأميرال سير توني راداكين بهذا الأمر خلال مؤتمر عقد أخيراً في برلين، حين شدد على ضرورة اتباع مثال دول البلطيق والدول الإسكندنافية في تعزيز الجهوزية الدفاعية والمدنية للحرب.
على رغم الخطاب الجسور، لا تستطيع قوات البحرية الملكية أن تنشر مجموعة حاملة طائرات من دون الاعتماد على سفن وطائرات الولايات المتحدة والحلفاء. والجيش عاجز عن نشر فرقة كاملة قوامها 15 ألف جندي من عديده الذي يضم 70 ألفاً كما تنقصه الذخيرة اللازمة كي يحارب أكثر من شهر. أما سلاح الجو الملكي، فليس لديه سوى نحو 24 مقاتلة تايفون جاهزة للقتال من بين أسطول يضم أكثر من 100 طائرة.
ووزير الدفاع محق في تشديده على أن الموضوع لا يتعلق بزيادة الانفاق فحسب، بل الانفاق بصورة أفضل، لكن التمويل مهم فعلاً. وإن طلبت دولة من أعضاء "الناتو" تفعيل البند الخامس الذي ينادي بالدفاع المشترك - وهو ما قد يحدث في غضون خمسة أعوام في رأي خبراء متعديين في منطقة البلطيق والمناطق شمال أوروبا - لا تستطيع المملكة المتحدة أن تؤجل استجابتها للطلب متحججة بالقيود الاقتصادية.
فالمبدأ الذي يتبعه "الناتو"، والقائل إن "الهجوم على واحد يعد هجوماً على الجميع" سيفرض على المملكة المتحدة أن تنضم إلى القتال - وهو وضع لسنا مستعدين له بتاتاً مقارنة بجيراننا الأوروبيين.