جدّدت الميليشيات الشيعية اعتداءاتها على متاجر ومؤسسات مدنية أجنبية في العاصمة العراقية بغداد مستهدفة فرع لشركة كاتر بيلر الأميركية ومقرّا لمعهد كامبردج البريطاني.
ويضع منفذو تلك الأعمال التي شملت قبل أيام مجموعة من المطاعم تابعة لسلسلة “كي إف سي” الأميركية، هجماتهم تحت عنوان التضامن مع قطاع غزّة عبر استهداف الشركات والمؤسسات الداعمة لإسرائيل وفق رواية الفصائل المسلّحة، لكن سياسيين عراقيين وأجانب يعتبرونها جزءا من الحرب التي تشنّها إيران باستخدام الفصائل المسلّحة التابعة لها في العراق لمنع خصومها ومنافسيها على النفوذ في البلد وفي مقدمتهم الولايات المتّحدة من التمركز على أرضه، ليس فقط عسكريا ولكن أيضا اقتصاديا واستثماريا.
وكانت فصائل شيعية مرتبطة بالحرس الثوري الإيراني قد نفذت خلال الأشهر الماضية سلسلة من الهجمات بالصواريخ والمسيّرات ضدّ مواقع تمركز القوات الأميركية في سوريا والعراق، وردّت تلك القوات أكثر من مرّة بتوجيهها ضربات لتلك الفصائل محدثة خسائر بشرية في صفوفها.
واضطرت الفصائل بعد ذلك لوقف هجماتها، ويبدو أنّها استأنفتها الآن بصيغة جديدة تراها أكثر أمانا بالنسبة إليها.
وبحسب مختصّين في شؤون الجماعات الشيعية المسلّحة، فإنّ الميليشيات تحاول بتغيير وجهة استهدافها صوب متاجر ومشاريع استثمارية ومؤسسات مدنية أجنبية تجنّب ردود الفعل الأميركية العنيفة خصوصا وأنّ الفصائل المعروفة بعدائها لواشنطن مثل كتائب حزب الله تتجّنب الظهور في واجهة الهجمات على المطاعم وغيرها عبر التخفي وراء أسماء مستعارة مثل “ربع الله”.
وتظهر السهولة والأريحية في تنفيذ الهجمات في قلب وبغداد وبطرق استعراضية أحيانا مدى ما تحظى به الجهات المنّفذة من سلطة ونفوذ.
كما تظهر قدرة الفصائل الشيعية ومن ورائها إيران على التحكّم، إلى جانب المشهد الأمني، بالمشهد الاقتصادي والتجاري، وتحديد من يحق له العمل والاستثمار في العراق.
وأعلنت قوات الأمن العراقية الخميس عن تفجير قنبلة صوتية أمام شركة كاتر بيلر الأميركية في منطقة الجادرية وأخرى أمام معهد كامبردج وسط بغداد، موضّحة عدم تسجيل أضرار بشرية أو مادية جرّاء الانفجارين.
وقال مصدر محلي إن المركز هو في الأصل عراقي ويقدم دروسا في اللغات الأجنبية، في حين قالت موظفة في الشركة الأميركية فضّلت عدم الكشف عن اسمها لوكالة فرانس برس “شركتنا هي وكيل حصري لكاتر بيلر لبيع المعدات الثقيلة”.
وقالت الخلية الأمنية التابعة لوزارة الداخلية العراقية في بيان إنّ “هكذا أفعال تحاول يائسة أن تسيء إلى سمعة العراق والتوجه الملموس للإعمار وخدمة المواطنين وكذلك إلى مكانة وتضحيات قواتنا الأمنية”، مبينة أن “القطعات الأمنية بمختلف عناوينها وأجهزتها الاستخبارية ستلاحق وستصل إلى كل من يعبث بالأمن والسلم المجتمعي ويتجاوز على القانون والممتلكات العامة والخاصة”.
وأوضح مسؤول في الاستخبارات العراقية أنه لم يتم التأكد من الجهات التي تقف وراء هذين الهجومين.
وفجر الأحد الماضي أُلقيت قنبلة يدوية الصنع على أحد فروع مطعم “كي إف سي”، متسببة بأضرار مادية طفيفة. وفي اليوم التالي اقتحم ملثمون فرعا آخر للمطعم وحطموا الزجاج. وأعلنت القوات الأمنية إثر الهجومين توقيف مشتبه بهم.
الميليشيات تحاول بتغيير وجهة استهدافها صوب متاجر ومشاريع استثمارية ومؤسسات مدنية أجنبية تجنّب ردود الفعل الأميركية العنيفة
وحملت الهجمات بصمة ميليشيا كانت قد ظهرت فجأة في عهد رئيس الوزراء السابق مصطفى الكاظمي تحت مسمّى لم يكن متداولا من قبل هو “ربع الله”.
وتؤكّد مصادر عراقية أن “ربع الله” مجرّد واجهة لكتائب حزب الله العراق أحد أكثر الفصائل العراقية ارتباطا بالحرس الثوري الإيراني ومن ثمّ معاداته المعلنة للولايات المتّحدة وتزعمه “مقاومة” وجودها في العراق بمختلف مظاهره العسكرية والمدنية.
وسبق أن تعرّضت فروع متاجر ومطاعم غربية في العراق إلى تهديدات عبر مواقع التواصل الاجتماعي أو منشورات وكتابات على الحيطان حملت عبارات تتهم أصحاب تلك المشاريع بدعم إسرائيل.
وسياسيا ما يزال اللعب على وتر معاداة الولايات المتّحدة مصدر دعاية مجزية للكثير من السياسيين العراقيين الشيعة، بمن فيهم المشاركون في حكم البلاد، والمدركون لعمق الارتباط وخصوصا الاقتصادي والمالي، لبغداد بواشنطن.
وطالب رجل الدين الشيعي العراقي مقتدى الصدر الذي يتزّعم التيار الوطني الشيعي قبل أيام بغلق السفارة الأميركية في بغداد. وقال في بيان على منصة إكس “أكرر مطالبتي بطرد السفيهة الأميركية من العراق وغلق السفارة بالطرق الدبلوماسية المعمول بها دون أيّ إراقة دم”، معتبرا أن “ذلك أشد أذى لهم (للأميركيين) وأكثر ردعا من استعمال القوة كي لا تكون لهم حجة لزعزعة أمن العراق وشعبه”.
الاعتداء على فرع الشركة الأميركية ومقر المعهد البريطاني حمل تحديا استثنائيا للحكومة العراقية التي توعّدت بمواجهة حازمة لتهديد المؤسسات الأجنبية
وجاءت هجمات بغداد الأخيرة في ظلّ توجّه واضح من قبل حكومة رئيس الوزراء العراقي محمّد شياع السوداني لتنشيط التنمية وتنويع موارد الاقتصاد عبر الدخول في شراكات مع جهات أجنبية وجلب مستثمرين من عدّة بلدان.
ويعني نجاح بغداد في ذلك فقدان طهران لامتيازاتها الكثيرة في العراق باعتبارها الطرف الأقوى نفوذا سياسيا وأمنيا واقتصاديا في البلد.
وقام رئيس الوزراء العراقي في أبريل الماضي بزيارة اعتبرت نتائجها مخيبة لإيران وحلفائها العراقيين، كونها لم تحدث أيّ تقدّم في موضوع إخراج القوات الأميركية من العراق، وانصبت المحادثات خلالها على قضايا مالية واقتصادية ما أثار قلق طهران من حصول الجانب الأميركي على تعهّدات عراقية بتسهيل عمل المستثمرين الأميركيين في البلد.
وغابت إيران عن مشروع تنموي ضخم يعتزم العراق تنفيذه بالتعاون مع تركيا والإمارات وقطر، ويتمثّل في ربط أقصى جنوب العراق بالحدود التركية بطريق سيارة وسكّة حديد.
وأثار ذلك تساؤلات حول موقف طهران من المشروع وعن تصرف الميليشيات التابعة لها إزاءه عند الشروع الفعلي في إنجازه.
وحمل الاعتداء على فرع الشركة الأميركية ومقر المعهد البريطاني تحديا استثنائيا للحكومة العراقية التي توعّدت بمواجهة حازمة لتهديد المؤسسات الأجنبية، وباشرت بفتح تحقيق في الهجمات على سلسلة المطاعم.
وأدانت السفيرة الأميركية ألينا رومانوسكي “الهجمات العنيفة الأخيرة ضد الشركات الأميركية والدولية” محذرة من أنّها “تضعف قدرة العراق على جذب الاستثمارات الأجنبية”.
وحثت رومانوسكي في تدوينة على منصة إكس الحكومة العراقية على “إجراء تحقيق شامل وتقديم المسؤولين عن الهجمات إلى العدالة ومنع أي هجمات مستقبلية”.
وعلى الجانب العراقي تفاوتت مواقف القوى السياسية من موجة الهجمات الجديدة بحسب مدى انسجام تلك القوى مع توجهات الحكومة في تنشيط الاقتصاد وجلب المستثمرين، وأيضا بحسب ما تراه من مصلحة سياسية وحتى مادية في المشاريع والاستثمارات.
ونفى سعد المطلبي القيادي في ائتلاف دولة القانون بزعامة رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي وجود علاقة بين استهداف الشركات الأميركية وملف الحرب الإسرائيلية على غزّة واصفا الهجمات بـ”الاعتداءات السافرة على تلك الشركات”.
وقال في تصريحات لوسائل إعلام محلية “باطن الأمر يشير إلى جهات تعمل على الإساءة للاقتصاد العراقي وضرب عملية الاستثمار والتأثير بشكل خطير على الاستثمارات الأجنبية”.
كما شكّك المطلبي في قدرة الحكومة العراقية على حماية كل الشركات الأميركية وغيرها في بغداد، معتبرا أنّ “الحكومة تعمل على توفير الحماية العامة، أما الحماية الخاصة لكل الشركات فأمر صعب جدا”.