هل يعيد التاريخ نفسه؟ سؤال يشغل كثيرين حول العالم؛ سواء في الأوساط الأكاديمية أو النقاشات العامة، وسط آراء تجيب بنعم وأخرى تنفي تماما.
وفي ليلة الأحد-الإثنين، كانت القارة الأوروبية، على موعد مع حدث فريد، ربما يتكرر بشكل لافت، للمرة الأولى منذ 100 عام، ما قد يعيد سردية تكرار الأحداث التاريخ، ومخاوف العنف والفوضى التي ارتبطت به، إلى الواجهة.
نبدأ القصة من النهاية وليس البداية؛ ذلك الصعود الانتخابي المدوي لأحزاب اليمين المتطرف في انتخابات البرلمان الأوروبي التي جرت في الفترة بين 6-9 يونيو/حزيران، في سياق توتر في القارة خلفته الحرب الأوكرانية، وأوضاع اقتصادية متراجعة.
وكان فوز حزب التجمع الوطني اليميني المتطرف بزعامة مارين لوبان في فرنسا، هو الحدث الأبرز، بعد أن دفع أداؤه القوي الرئيس إيمانويل ماكرون إلى حل البرلمان والدعوة إلى انتخابات جديدة.
كما احتلت الأحزاب اليمينية المتطرفة المركز الأول في النمسا وإيطاليا والمجر، وتعادلت في المركز الأول في هولندا، وجاءت في المركز الثاني في ألمانيا ورومانيا. كما وصل حزب ”ريكونكويست“ الفرنسي الناري بزعامة إريك زمور إلى البرلمان.
تحول كبير
أداء قوي يراه عبد المسيح الشامي، منسق العلاقات الألمانية العربية في البرلمان الألماني، "بداية تحول كبير، ويعكس مزاجا شعبيا عاما في أوروبا"، معتبرا أن "وجه القارة العجوز يتغير".
ورغم هذا الصعود الذي يوصف بـ"التاريخي"، و"نقطة التحول" على صعيد التوجهات السياسية والشعبية في القارة، إلا أنه لم يؤثر بشكل كبير على تركيبة السيطرة وتحالف الأغلبية داخل البرلمان الأوروبي.
إذ احتفظت كتل حزب الشعب الأوروبي (يمين) مع الاشتراكيين الديمقراطيين و"تجديد أوروبا" (وسطيون وليبراليون) مجتمعة بالغالبية في البرلمان الأوروبي.
ومع ١٨٤ مقعدا متوقعا لحزب الشعبي الأوروبي و١٣٩ للاشتراكيين الديمقراطيين و٨٠ لـ"تجديد أوروبا" (رينيو يوروب) تشكل هذه الكتل "الائتلاف الكبير" الذي ستحصل في إطاره التسويات في البرلمان الأوروبي، مع جمعها 403 مقعدا من أصل 720.
وتملك جميع روافد اليمين المتطرف مجتمعة 229 مقعدا في البرلمان الأوروبي، لكنها لا تندرج تحت لواء كتلة واحدة، أو توجهات سياسية عامة واحدة، وإنما تنفسم فيما بينها، وإن لا تزال تؤشر على التحول السياسي في القارة.
إذ يقول الشامي إن الأصوات الضخمة التي حصل عليها اليمين المتطرف، والمقاعد التي استطاع تأمينها، "تعبر حقيقة عن التحول الذي بدأ، أو حدث بشكل كبير، في الآونة الأخيرة في الشارع الأوروبي، من الاعتدال إلى اليمين".
3 روافد
وفشل اليمين الأوروبي حتى الآن في تشكيل "مجموعة عملاقة"، حيث إن أعضاءه منقسمون، لا سيما فيما يتعلق بروسيا ومدى مشاركتهم في العمل التشريعي أو الاكتفاء بمعارضته بشكل منهجي ومتواصل، وفقا لصحيفة "فاينشال تايمز" البريطانية.
وكانت مجموعة الهوية والديمقراطية (ID) تقليديا مؤيدة لروسيا وتفضل مغادرة الاتحاد الأوروبي. ومع ذلك، مع سعي ماري لوبان وغيرها من السياسيين في المجموعة لاستقطاب الناخبين في الانتخابات الوطنية المقبلة، فقد عدّلوا خطابهم.
وتطمح لوبان لتشكيل مجموعة كبرى مع حزب المحافظين والإصلاحيين الأوروبيين (ECR) بقيادة ميلوني، وأعضاء من الحزب الحاكم المجري فيدس، الذين تم استبعادهم من حزب الشعب الأوروبي (EPP)، وفق تقارير أوروبية.
وكتلة المحافظين والإصلاحيين الأوروبيين، تضم خصوصا حزب "إخوة إيطاليا" (فراتيلي ديتاليا) بزعامة ميلوني وحزب القانون والعدالة البولندي، تأخذ خطوة للخلف بعيدا عن اليمين المتطرف والشعبوي، رغم أن الأحزاب المكونة لها تندرج تحت هذه التيار.
هذه الكتلة تسيطر في البرلمان الأوروبي بتشكيلته الجديدة على 73 مقعدا بزيادة 4 مقاعد عن التشكيلة السابقة، أي بمعدل زيادة 10%.
أما كتلة الهوية والديمقراطية فتضم حزب التجمع الوطني الفرنسي وحزب الرابطة الإيطالي وحزب الحرية النمساوي، لكنها استبعدت مؤخرا حزب البديل من أجل ألمانيا من صفوفها.
وفي تشكيلة البرلمان الجديدة، تسيطر هذه الكتلة على 58 مقعدا، بزيادة ٩ مقاعد، أي 8%.
وتضخم مكاسب حزب البديل من أجل ألمانيا الانتخابية، عدد النواب غير المنخرطين في كتل. فإلى جانب الحزب الألماني، يعد حزب فيدس الذي يتزعمه رئيس الوزراء القومي المجري فيكتور أوربان "يمين متطرف" من بين الأحزاب غير المنخرطة في كتل.
ويملك الحزبان الألماني والمجري معا، 98 مقعدا في البرلمان، بزيادة ٣٦ مقعدا عن التشكيلة السابقة، أي بمعدل زيادة 13.6%.
لماذا الصعود؟
وفيما يتعلق بأسباب هذا الصعود الكبير لممثلي اليمين المتطرف، قالت الدكتورة جيهان جادو، الخبيرة السياسية الفرنسية، لـ"العين الإخبارية"، إن "أحد أهم الأسباب الظروف الاقتصادية المتأزمة في الفترات الماضية، والتي أثبتت عدم جدارة وكفاءة العديد من رؤساء الدول في أوروبا".
وتابعت "فقد الناخبون الثقة في معظم الأحزاب والتكتلات الأخري، وبالتالي ساعدت هذه الأزمات الاقتصادية، وأيضا حرب روسيا وأوكرانيا، في تصاعد اليمين المتطرف شيئا فشيئا في الانتخابات الأوروبية".
موضحة "لأن اليمين المتطرف يلعب علي الهوية الوطنية وترسيخها وإبعاد المهاجرين وطردهم من أوروبا، وأيضا يتبنى مكافحة الهجرة غير الشرعية باعتبارها أحد أهم مشكلات القارة حاليا، يَلقي استحسانا لدي طبقة عريضة من الناخبين الأوروبيين".
فيما أرجع عبد المسيح الشامي صعود اليمين المتطرف، إلى "أسباب عديدة لها علاقة بملفات داخلية كموجات اللجوء، والإرهاب الذي بدأ يجتاح أوروبا، والمد الإسلاموي الذي بدا يهدد الهوية الأوروبية، إضافة إلى الحرب الأوكرانية وفشل الأحزاب التقليدية في حل الأزمات الاقتصادية والسياسية".
وتابع "ساهمت الإشكالات التي وجد النائب الأوروبي نفسه، في قلبها، مثل بعد التوجه الكبير للتسلح والدخول في الصراعات العالمية"، قبل أن يحذر بشكل واضح، من موجة صعود كبيرة لليمين المتطرف في المؤسسات الوطنية بالدول الأوروبية.
الشامي قال إن أوروبا "تقترب من وجه يميني مسيطر إلى حد كبير، ونجاح هذا التيار في البرلمان الأوروبي يعني أن اليمين المتطرف ربما سيصعد بسرعة صاروخية في كل المؤسسات (الأوروبية) الأخرى، إضافة إلى الدول الوطنية".
وبالفعل، دفع انتصار اليمين المتطرف الكبير في الانتخابات الأوروبية بفرنسا، إلى اللجوء لخيار صعب بحل البرلمان الوطني والدعوة لانتخابات مبكرة نهاية الشهر الجاري، وسط مخاوف من تحقيق التيار الشعبوي انتصارات كبيرة بها، يغذيها دفعه بقائد حملته للانتخابات الأوروبية، جوردان بارديلا، كمرشح لرئاسة الوزراء.
التاريخ يكرر نفسه؟
مكاسب اليمين المتطرف في الانتخابات الأوروبية، واحتمالية فوزه بالانتخابات التشريعية الفرنسية، يذكران بالصعود الانتخابي التدريجي لهذا التيار في عشرينيات، قبل أن تسيطر على السلطة في ثلاثينيات القرن الماضي.
ووفق دراسة لجامعة كامبريدج البريطانية نشرت في عام 2013، فإن أحزاب اليمين المتطرف حققت انتصارتها التدريحية في العشرينيات والثلاثينيات، في سياق مضطرب كان العنصر الأهم فيه الأزمات الاقتصادية التي بلغت ذروتها بالكساد العظيم في 1929.
ووجدت الدراسة رابطا بين الأوضاع الاقتصادية الصعبة والاستياء الشعبي من الأحزاب التقليدية، وصعود تيارات اليمين المتطرف انتخابيا في هذه الفترة، حيث قدمت الأحزاب الفاشية نفسها كبديل قوي للأحزاب الرئيسية المنقسمة وغير القادرة على حل الأزمات.
سياق يبدو متشابها في بعض النقاط، ذلك المحيط بالصعود الحالي لليمين المتطرف، ما دفع حيهان جادو للقول "أعتقد أن أوروبا أرض خصبة جدا للتغييرات الحزبية، ومختلف الأحزاب تجد مؤيدين ومعارضين".
لكنها استدركت "ليس معني أن هناك صعودا لليمين المتطرف، أن باقي الأحزاب مأزومة، بل على العكس هناك منافسة كبيرة جدا بين الأحزاب والتكتلات الأخري، وأحزاب اليمين المتطرف، والمشهد السياسي دائم التغيير في القارة الأوروبية".
ومضت قائلة "لا نستطيع القول إن أوروبا سوف تعود للخلف بقدر ما نؤكد على وجود حراك سياسي دائم بالقارة، ولن يكون مستغربا أن يظهر حزب جديد مغاير تماما، ويفرض نفسه علي الساحة السياسية لأن المواطنين الأوروبيين يسعون دائما للتغيير".
لكن الشامي كان أكثر وضوحا، وقال "لا شك أن التاريخ يكرر نفسه بشكل أو بآخر"، لكن "من الصعب القول إن هناك تشابها كبيرا بين الماضي والحاضر من حيث الظروف العالمية".
وأضاف "بكل الأحوال، لا شك أنها مقارنة مهمة رغم اختلاف الظروف"، موضحا "أوروبا في وضع سيئ وتراجع بالنمو الاقتصادي، وهو ما يشبه بشكل كبير فعلا القرن الماضي".
وأكمل "لكن ربما هناك الكثير من المعطيات والتفاصيل التي تختلف اختلافا كبيرا عن ظروف القرن الماضي"، في إشارة على ما يبدو إلى أن عشرينيات القرن الماضي، كانت الفترة التي أعقبت الحرب العالمية الأولى، قبل أن يعود ويقول "لكن أعتقد أن المقارنة في محلها".