مررت الإدارة الأميركية خبر عودتها عن قرارها السابق منع تزويد السعودية بالأسلحة الهجومية. استكملت إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن دورة تخبطها الإستراتيجي في منطقة الشرق الأوسط، وأدركت أنها لا تستطيع أن تطلب من حليف إستراتيجي مثل السعودية الشيء ونقيضه في نفس الآن. ولدقة أكثر في توصيف ما يجري بين واشنطن والرياض، فإن إدارة بايدن تطلب الكثير من المتناقضات السياسية معا وتتوقع من السعودية أن تتجاوب مع هذه الطلبات.
دخلت إدارة بايدن البيت الأبيض بروح عدوانية ضد السعودية. القول بأن بايدن وفريقه الديمقراطي كانا غاضبين من السعودية بسبب مقتل الصحافي جمال خاشقجي في قنصليتها في تركيا، هو مجرد غطاء إعلامي لحقيقة أن هذه الإدارة إنما ترث الكثير مما تركته إدارة الرئيس الديمقراطي السابق باراك أوباما. الرياض، من وجهة نظر الديمقراطيين، كانت العامل المعكر للكثير من الإنجازات الإستراتيجية لعهد أوباما. يكفي أن حلف الاعتدال العربي بقيادة السعودية كان هو العامل الأهم في إجهاض مشروع التغيير الشامل في المنطقة في ما صار يعرف بالربيع العربي. من دون الدخول بتفسيرات المؤامرة، فإن إدارة أوباما – بايدن في حينها اقتنعت بأن ثمة شيئاء اسمه الديمقراطية الإسلامية أسوة بالديمقراطية المسيحية التي طبعت إلى حد كبير عصر ما بعد الفاشية في أوروبا. تبنت إدارة أوباما المشروع الإخواني وسوقت له. بقية نتائج الحروب الأهلية الناتجة عن الربيع العربي أكثر من معروفة.
لا تتوقع دول الإقليم، ومنها السعودية، أن تنظر الولايات المتحدة لهم بعين تماثل نظرتها لإسرائيل، حيث التراشق الدبلوماسي والتأنيب السياسي لا يتعدى الكلام ولا يمسّ المصالح الأساسية أو توريدات السلاح
السعودية أيضا، من وجهة إدارة بايدن، كانت المتسبب في تقديم المبررات للرئيس الجمهوري دونالد ترامب في إلغاء الاتفاق النووي مع إيران، جوهرة التاج في الإنجازات التي تفتخر إدارة أوباما بتحقيقها. تصعيد العداء مع طهران كان مهمة الرياض، حتى وإن تمكن الإيرانيون من دعم مشروع حليفهم الحوثي في اليمن لاحتلال العاصمة صنعاء واجتياح بقية أرجاء اليمن، شماله وجنوبه، مما يهدد الأمن والاستقرار على الحافة الجنوبية للجزيرة العربية. الحرب في اليمن، من وجهة نظر أميركية، لم تبدأ يوم دخل الحوثيون صنعاء وأسقطوا حكم الرئيس عبدربه منصور هادي، بل يوم بادر التحالف العربي بالرد في محاولة استعادة حكم الشرعية. من قبل أن توقف واشنطن شحنات الأسلحة الهجومية للسعودية، كانت قد رفعت الحوثي من قائمة الإرهاب مما يتيح فتح باب التعامل معه من جديد. بقية نتائج وصول الحوثي إلى حكم اليمن من تهديد إستراتيجي يراه العالم اليوم مجسدا في استهداف الملاحة في البحر الأحمر وخليج عدن أكثر من معروفة.
كان للتصعيد الأميركي ضد السعودية أن يستمر لولا حرب أوكرانيا. فجأة تنبه “الخبير” الإستراتيجي الأميركي بأن لا غنى عن نفط السعودية في مواجهة حقيقة أن الروس أدخلوا سلاح الغاز والنفط لأوروبا كجزء من ترسانة المعركة مع الغرب بواجهتها الأوكرانية. وبعد تمنع سعودي، اضطر بايدن إلى زيارة السعودية والعثور على تسوية شكلية باستبدال المصافحة التقليدية بملامسة القبضة مع ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان. فهم الأميركيون حدود التجاوب السعودي مع رغباتهم في زيادة كميات النفط المعروضة في الأسواق.
مع “الأريحية” التي صاحبت مصافحة القبضة، صارت إدارة بايدن تريد تحقيق المزيد من الاختراقات في علاقتها مع السعودية. كان السعوديون قد انفتحوا على الصين وروسيا، وتصالحوا مع الأتراك وفتحوا صفحة جديدة مع الإيرانيين. لماذا لا يأتي الراعي الأميركي بمقترح السلام السعودي – الإسرائيلي، طالما تسعى الرياض لطي صفحات صراعاتها الإقليمية؟ وبحسب مطلعين على الملف، فإن الاتفاق على سلام سعودي – إسرائيلي كان قد وصل إلى مراحل متقدمة، لولا “طوفان الأقصى”. هل أقنعت عملية حماس في غلاف غزة السعوديين بأن لا سلام مع إسرائيل من دون الفلسطينيين؟ لا نعرف بالضبط. لكن كل شيء تغير من يومها.
أدرك زعماء المنطقة من أول يوم لأزمة حرب غزة الجارية أن هذه الحرب تختلف عمّا سبقها. ما كانت إيران ستضيّع فرصة الرد الإسرائيلي على حماس لتحويل المواجهة إلى حرب إقليمية. احتفت طهران وحلفاؤها بـ”الطوفان” وبدأوا بتسجيل حضورهم مبكرا، بدءا من أول صواريخ أطلقها حزب الله على شمال إسرائيل. وبعد فترة وجيزة، كانت كل الميليشيات الموالية لإيران، في اليمن والعراق وسوريا، تشارك بشكل أو آخر بالحرب. أطلق الحوثيون بعض المسيّرات البسيطة التي سقطت على أرض مصرية، ثم انتبهت إيران إلى أن الأخطر هو مضيق باب المندب. أطلق الحوثيون حربهم على الملاحة العالمية، ولم يتأخر الرد الغربي كثيرا، حتى وإن بدا محدودا.
عادت الولايات المتحدة لتقليب دفاترها ووجدت الصفحة السعودية لا تزال مفتوحة. من الواضح أنها في حاجة إلى الحليف السعودي وعليها أن تعود عن قرارها بمنع تزويده بالأسلحة الهجومية
لعل المتغير الأهم الذي لم تدركه إيران عندما أمرت ميليشياتها الولائية بمهاجمة إسرائيل هو أن عملية “طوفان الأقصى” غيرت إسرائيل تماما. يرى الإسرائيليون، وليس بنيامين نتنياهو وحكومته المتطرفة فقط، أن ثمن الحرب دفع مقدما بمقتل 1200 إسرائيلي واحتجاز المئات من قبل حماس. لم يعد لدى إسرائيل ما تخشاه من توسع رقعة الحرب وأن القرار الإيراني ساعدها إستراتيجيا على اتخاذ قرار كانت تستمر في تأجيله وهو توجيه ضربات قاسية لحزب الله ستكلفها الآن أقل مما لو فعلت ذلك بعد بضعة أعوام من الآن. توسيع رقعة الحرب الإقليمية لم ينحصر بحزب الله، بل استغلت إسرائيل هجوم مسيّرة حوثية على تل أبيب لمهاجمة المنشآت النفطية ومحطات الكهرباء في الحديدة. الولايات المتحدة تعرف الآن أن نتنياهو ومعه حكومته وعدد لا يستهان به من كبار العسكريين الإسرائيليين سيذهبون إلى أبعد حد في المواجهة وهو ما تجسد بعد أيام من قصف الحديدة بتصفيتهم لفؤاد شكر في لبنان وإسماعيل هنية في طهران. إذا كان قصف الحديدة واغتيال كبار قادة الحرس الثوري وحزب الله وحماس لا يعدان حربا إقليمية، فكيف تكون إذن الحرب الإقليمية.
عادت الولايات المتحدة لتقليب دفاترها ووجدت الصفحة السعودية لا تزال مفتوحة. من الواضح أنها في حاجة إلى الحليف السعودي وعليها أن تعود عن قرارها بمنع تزويده بالأسلحة الهجومية. لا أحد يعرف بالضبط إلى أيّ مدى يمكن أن تذهب إسرائيل في ردها على الرد الإيراني المنتظر. ولا يمكن أن يترك من هم محسوبون على الولايات المتحدة بلا أسلحة رادعة.
لكن تقليب الدفاتر لا يعد سياسة. ظلت إدارة بايدن تنظر إلى السعودية بعدسات مختلفة. أول ما نظرت فكانت بعدسة التشهير بالسعودية بعد حادثة خاشقجي، ثم بعدسة نظرها إلى روسيا عندما تعلق الأمر بالطاقة، ومرة بعدستها الصينية عندما انفتحت الرياض على بكين، ومرة بعينها الإسرائيلية عندما أرادت استكمال مسار السلام الإسرائيلي مع الإقليم، ومرة بعدستها الإيرانية عندما بردت أجواء التصعيد بين طهران والرياض. في كل مرة لا تريد إدارة بايدن أن تنظر إلى السعودية بعدسة خاصة بالسعودية وأولوياتها الإقليمية والسياسية. كل مرة تأتي بحلول ترقيعية لهذه العلاقة التي يفترض أنها إستراتيجية وتاريخية. اليوم ثمة رقعة لقماش العلاقة اسمه العودة عن قرار التسليح بمعدات هجومية وهو وليد التصعيد الإقليمي وليس ما تريده الرياض أو تحتاج إليه، ومن دون حتى الجلوس إليها لمعرفة حقيقة المخاوف التي دفعتها للاشتباك مع الحوثيين.ج
من الصعب الحكم بكم تتحمل الرياض نفسها جزءا من المسؤولية في إيصال العلاقة إلى مستوى يقترب من العداء. بالتأكيد أنها لم تحسن تقدير أن الإدارة الديمقراطية القادمة في حينها، أي إدارة بايدن، ستحاول تصفية الحساب معها، لقربها من ترامب ولمشاركته في تفكيك تركة عهد أوباما في المنطقة. لربما راهنت الرياض على أن الولايات المتحدة دولة مؤسسات وأن من الصعب على إدارة جديدة أن تقلب الأمور خارج مستوى العلاقات التاريخية. لكن من المؤكد أن إدارة بايدن عندما وصلت لم تضيع يوما واحدا وبادرت فأعلنت عن موقفها العدائي من السعودية مبكرا.
لا تتوقع دول الإقليم، ومنها السعودية، أن تنظر الولايات المتحدة لهم بعين تماثل نظرتها لإسرائيل، حيث التراشق الدبلوماسي والتأنيب السياسي لا يتعدى الكلام ولا يمسّ المصالح الأساسية أو توريدات السلاح كما نشهد اليوم على وقع تطورات حرب غزة. لكن درس تقلبات إدارة بايدن، ودورتها الكاملة، على مدى أقل من أربعة أعوام، مهم وضروري ولا يمكن أن يطوى بمجرد وصول “صديقنا” ترامب إلى البيت الأبيض.