يحز في نفسي رؤية الفوضى والعشوائية تجري في أي عمل جنوبي ومكتسبات جنوبية، واستحقاقات وطنية طال الانتظار لنيلها وانتزاعها ، كما أستاء جدا عندما أشاهد تلك الممارسات والأساليب والظواهر المقيتة الدخيلة على مجتمعنا الجنوبي، والتي ظلينا نعاني من ويلاتها لثلاثين عاما ، باتت اليوم تمارس من أبناء جلدتنا وبصورة أبشع بكثير للآسف.
ومع ذلك، نستمر في إنتقادنا البناء، وطرح أرائنا بكل شفافية وموضوعية، لعلها تصل إلى مسامع القيادة وتحدث أمرا نأمل أن يكون مفعولا، لإصلاح ما أفسدته سنوات من العشوائية والفوضى التي ساهمت في إنحطاط الأخلاق والقيم الجنوبية الأصيلة.
ما يحدث من عشوائية وفوضى كبيرة عند البدء بصرف رواتب منتسبي القوات الجنوبية في المعسكرات، يدمي القلب والعين، لاسيما تلك المشاهد المثيرة للمئات من الجنود الكبار والصغار وهم يفترشون الأرض وتحت أشعة وحرارة الشمس اللافحة أمام بوابات المعسكرات في عدن منذ الصباح الباكر ، بانتظار اللجنة المالية الخاصة بالصرف، التي لا تصل إلى المعسكر إلا بعد غروب الشمس، ولساعات محدودة، خلالها يتم إيقاف الصرف مرات عديدة، بمبررات كثيرة، فثارة للصلاة وثارة للعشاء وثارة أخرى بحجة توقف النظام، أو لأسباب أخرى متعلقة بحدوث خلاف أو شجار أو ملاسنة وغيرها.
عندما تقف أمام بوابة أحد المعسكرات في عدن، يشد انتباهك الكثير من المشاهد المثيرة والمعاناة الطويلة لحالات عديدة من أولئك الجند المرتصين، الذين ينتسبون لألوية ومعسكرات في عدة محافظات مجاورة، فمنهم من يأتي من أبين وآخرين من لحج مثلا، إلى عدن، للتمكن من استلام الـ500 ريال السعودي التي لم يتمكنوا من استلامها في محافظاتهم، لعدة أسباب، ومنها قُصر مكوث لجان الصرف وسرعة رحيلها، وأخرى متعلقة بوجود إيقافات وإجراءات يجب إنهاءها في معسكر القيادة المركزية في عدن، لفتح الرواتب المتوقفة، وغيرها.
وجميع هؤلاء يتم حشرهم في معسكر واحد بعدن، وعليهم المكوث أمام بوابته لساعات طويلة، مترقبين لبزوغ نجم "اللجنة الليلية" التي إتخذت من الليل "معاشا" بدلا من النهار، غير آبهة بأوضاع هؤلاء الجنود وأحوالهم الصحية والمعيشية، مستمتعة برؤية المئات يختنقون في زحام غير طبيعي أمام نافذة صغيرة، لا يتمكن من الوصول إليها إلا بشق الأنفس أو من كان ذو "حظ عظيم".
وفي حال حالف الحظ هذا الجندي أو ذاك، ووصل إلى ذلك الشباك الصغير المحاط بالأغلال، فإنه سيضع من خلاله بطاقته العسكرية أو المدنية أو جواز سفره فقط، لأحد أعضاء تلك اللجنة القاعد على كرسي، ومهمته تجميع الهويات الثبوتية للأفراد لا غير، بعدها تبدأ رحلة جديدة من الانتظار والمعاناة ولساعات طويلة، وسط زحام مهول وحر شديد، في انتظار وصول هويتك إلى عضو آخر في اللجنة يطل من نافذة صغيرة مماثلة بجوار الأولى، ليقوم بإذاعة اسمك، وقتها من هو ماهر في الغوص وفك الاشتباكات ويتمتع بجسم نحيل وعظم لين، يستطيع هو فقط من الوصول إلى ذلك الشباك الثان أو تمرير يده ليضع بصمة إبهامه في تلك الآلة الإلكترونية الخاصة بالبصمة، ليعلن حينها عضو اللجنة أحد أمرين، إما (ثبوت اسمه) وعليه الانتظار لساعات أخرى ليستلم الـ500 السعودي، وهذا الأمر يجعل الفرد ينسى ما تجرعه من مرارة وعناء طويل في الطوابير، وإما أنه موقف (خط أحمر)، وهذا الأمر يزيد من تذمر الفرد ويخرج من الطابور كارها كل شيئ، حتى العمل العسكري والواجب الوطني.
وأما من لم يحالفه الحظ، ولم يتم إذاعة اسمه، أو اضطر للمغادرة بعد طول إنتظار، فإنه سيفقد راتبه وكذلك بطاقته أو جواز سفره في آن واحد.
تمكث تلك اللجنة المالية أو ما يعرف بلجنة الصرف في المعسكر الواحد بين 4 إلى 6 ساعات، يتخللها توقفها عن العمل لأربع أو خمس مرات تقريبا، كل مرة تستغرق نصف ساعة أو 20 دقيقة على الأقل، بين عشاء وصلاة وتوقف النظام وقضاء الحاجة، كما يتخللها (الإدخال الجانبي أو من الخلف) لبعض الأفراد المحظوظين الذين يتمتعون بوساطة قوية أو محسوبية منحتهم (بلاغا) من العمليات.
خلال هذه الفترة المتعلقة بمكوث لجنة الصرف في المعسكر، بعد اقتطاع زمن التوقف، يبلغ إجمالي من ابتسم لهم الحظ واستلم راتبه، بين 40 إلى 50 فرد تقريبا أو ربما أكثر قليلا،(من إجمالي 200 إلى 300 فرد)، بينهم 30 فرد فقط وصلوا بطرق ملتوية عشوائية، والآخرين تجرعوا أسوء و"أبشع" المعاناة المصحوبة بأساليب الإنقاص من قدرهم وآدميتهم.
آلية سيئة للغاية، وإجراءات معقدة، وطوابير طويلة، تتخللها مشادات وملاسنات، على الرغم أن هناك آليات أخرى أكثر سلاسة ويسر يمكن إتباعها والسير فيها، لمنع هذه الاختناقات، وضمان حصول كل فرد على مستحقاته، دون نقصان أو حرمان أحد، كما هو معمول لأفراد ومنتسبي ألوية العمالقة الجنوبية.
أخيرا.. من لم يستطع مجاراة هذه الآلية المقيتة، وتعقب اللجنة الليلية من معسكر إلى آخر ، والصبر على حساب صحته وعائلته وإلتزاماته الأخرى، فإنه بات مهددا بالتوقيف وسقوط اسمه نهائيا، وإعتباره "قوة وهمية"، وسيتم استبداله بأفراد جدد يتم تهيأتهم منذ مدة لهذه اللحظة.
وأعتقد أن العميد محسن الوالي وكذلك العميد جلال الربيعي ليس عندهما علم كامل بما يحدث، أتمنى أن يكون كذلك، أدرك جيدا أن الوالي والربيعي يمقتان العشوائية والظلم ويسعيان دوما لتنظيم العمل وإصلاح أي اعوجاج يشوبه.