لفهم مشكلة ما، لابد في البداية النظر إلى جذورها، وما تفرع منها من نتائج تلقي بظلالها على حياة الناس، وفي كافة المجالات، ولكي نكون واضحين منذ البداية سنحاول أن نفهم جذور الأزمة بين المجلس الانتقالي الجنوبي، والحكومة والرئاسة اليمنية، مع الإشارة إلى أن الانتقالي جزء أصيل فيهما.
علينا أن نفهم أن ومحاولة تفكيك مواقف الانتقالي تجاه الحكومة والرئاسة من جانب، ومواقفه تجاه الأزمات المعاشة جنوبا لا يشكل أي مساس بالجنوب وقضيته العادلة، ومن أجل تحقيق ذلك يستوجب علينا أن نحدد أهداف الانتقالي منذ تأسيسه بعشرات الاشخاص المعزولين عن الحكومة، وما وصل إليه اليوم كمكون سياسي تغيب عنه أساسيات وقواعد العمل السياسي، والديمقراطي، والمؤسسي لأسباب سنتطرق لها لاحقا.
وبتصوري أن الهدف المركزي للانتقالي تجسد منذ البداية في السعي الحثيث للعودة إلى السلطة، متخذا من الجنوب وسيلة لتحقيق ذلك، ولربما نجح جزئيا في ذلك من خلال اشراكه في حكومة المناصفة، وكذلك مجلس القيادة الرئاسي، غير أنه لم يتمكن بشكل كلي من ابتلاع السلطة، وهذا ما ظهر مؤخرا كعارض لخلافه مع الحكومة.
المعلومات تقول إن ٧٠% من المنتمين للمجلس الانتقالي تقدموا بطلبات تعيينهم في مرافق هامة بالدولة،بينما الحكومة والرئاسة لديهما اعتراض أو قول تحفظ حول هذه الطلبات على اعتبار أن معظم المرشحين من قبل الانتقالي لا تنطبق عليهم أدنى معايير شغل الوظائف المحددة في مذكرات الترشيح، اضف إلى ذلك أن كل الترشيحات محصورة على المنتمين سياسيا للانتقالي، وهذا المبدأ يكرس التهميش للكثير من الكوادر الجنوبية المؤهلة والمقتدرة.
هذا الأمر قاد أكثر من مرة المجلس الانتقالي إلى التلويح بطرد الحكومة من عدن، تحت شعارات كثيرة منها الفساد، والجنوب، وذرائع أخرى، مستغلا حالة الاحتقان الشعبي بفعل انقطاع الكهرباء وتردي الأوضاع المعيشية، وفي نفس الوقت بقى الانتقالي الكابح الأكبر أمام اندفاع الناس إتجاه حقوقهم بشقيها الحقوقي، والسياسي، ذلك أنه لا يضمن توسع دائرة الغضب الشعبي بإتجاه مقراته، ومصالحه، وما كسبه خلال السنوات الماضية، وبالتالي هو في هذا المقام كمن يحمل العصا من المنتصف.
وفي سبيل سعي الحكومة لمرضاة المجلس الانتقالي فإنها تدفع قرابة 150 مليار ريال للانتقالي، كموازنة شهرية، فضلا عن تركها الصناديق الإيرادية في محافظة عدن ولحج وأبين للمجلس الانتقالي، وجميع تلك الأموال تذهب لخزينته، وتغطي أنشطته السياسية والإعلامية، اضف إلى ذلك ما يأتي الانتقالي من دول التحالف العربي كموازنة للقوات العسكرية والأمنية، وما يتلقاه من المنح والمساعدات الخارجية تحت مبرر انعاش القطاع الصحي والتعليمي والخدمي، وكل ذلك يذهب إلى المحفظة المالية للمجلس الانتقالي الذي اصبح يمتلك بنوكا ومؤسسات مالية كبيرة، وشركات مختلفة تحت غطاء الاستثمار باسم تجار ورجال مال وأعمال كانوا إلى ما قبل العام 2015م فقراء ولا يمتلكون قوت يومهم منهم جهاد الشوذبي صهر اللواء عيدروس الزبيدي.
يسير ذلك مع خطوات منتظمة على طريق الاستحواذ الكامل على الأراضي والعقارات والمتاجرة بها من قبل النافذين العسكريين والأمنيين المنتمين للمجلس الانتقالي، ومعظمها أملاك خاصة لمواطنين ومغتربين، وفي حوزتنا ملفات تتعلق بالبسط على أملاك عدد من المغتربين، تم مصادرتها بقوة السلاح لصالح نافذين ينتمون جغرافيا لبلاد القائد.
ووفق هذه المنهجية البراغماتية كشف الانتقالي عن نفسه كمكون سياسي بنفوذ عسكري ومالي كبير، فضلا عن جيوش من النشطاء على مواقع التواصل الاجتماعي، موظفين بالأجر اليومي، وهذا الأمر ضيق مساحة العمل السياسي جنوبا، وحال دون بروز أصوات وطنية أخرى تؤمن بالجنوب كقضية، وترفض استغلاله كشعار للابتزاز في سبيل تحقيق مكاسب شخصية لجماعة أو حزب، أضف إلى ذلك ما تمخض عن ذلك السلوك والنهج من مواقف خارجية، ظلت وما تزال تنظر للانتقالي كحالة مرضية عصية على المعالجة.
واكبر دليل على ذلك أنه وحتى اللحظة لم تعترف أي من الدول الصديقة والشقيقة بالجنوب كدولة، وكل اللقاءات التي جمعت عددا من السفراء وممثلي المنظمات الخارجية بقيادات المجلس الانتقالي كانت بموجب صفتهم كمسؤولين في الدولة اليمنية الموحدة، وحتى المشاركة الأخيرة لرئيس مجلس الانتقالي في اجتماع الجمعية العام للأمم المتحدة كان مجرد سراب، بعد أن رفض معظم قادة الدول الكبيرة والفاعلة اللقاء به بصفته الجنوبية، وغادر على إثرها إلى أبو ظبي دون أن يحقق شيئا من الشعارات التي سبقت ورافقت تواجده في نيويورك.
وبالنظر للمشكلة في تجليها الأكبر يتراءى فشل الانتقالي في الفصل بين كونه مكونا سياسيا جنوبيا يدعي تمثيل الجنوب، ويطالب باستعادة الدولة الجنوبية، وبين كونه جزءا من السلطة الحاكمة، وبالتالي اخفق في تلبية تطلعات جماهيره في انتزاع حق سياسي للجنوب، وكذلك عجز في القيام بدوره تجاه عامة الشعب كمسؤول مباشر عن تردي الأوضاع المعيشية والخدمية.
هذا التوجه حال دون توسع الانتقالي صوب المحافظات الشرقية، بسبب توجس الناس هناك من تكرار سيناريو عدن، ورأينا تأسيس مكونات بديلة مثل المجلس الحضرمي، وهناك تحضيرات قادمة سيعلن بموجبها المجلس المهري، والشبواني، وحتى في عدن نفسها بدأت تتشكل مكونات جديدة وتحظى باهتمام كبير بين الأوساط الشعبية، كمجلس الحراك المدني الذي يضم عددا كبيرا من المناضلين الأوائل وقادة الحراك الجنوبي السلمي.
في المقابل تقف الحكومة في منطقة رمادية بخصوص المشاكل والأزمات المعاشة، ولا يمكن إعفائها من مسؤولياتها تجاه المواطنين، مضاف إليه عجزها في مسألة التعامل ما سياسة فرض الأمر الواقع من طرف الانتقالي، وهذه المعضلة تنسحب أيضا على موقف دول التحالف باعتبارها المظلة المالية للشرعية والانتقالي.
وعن استراتيجية الحكومة في التعامل مع الانتقالي كمعضلة تزعم أنها الأساس الموضوعي لكافة الأزمات، فإنها أي الحكومة تعمل على عامل الوقت وفي أكثر من مسار، ويتمثل المسار الأول في تقديم الانتقالي للداخل والخارج على أنه شريك في السلطة، والحاكم الفعلي للمحافظات الجنوبية، وبالتالي هو المسؤول الأول عن تدهور الأوضاع الاقتصادية و المعيشية والخدمية، وهذا الأمر زعزع ثقة قطاع واسع من الجنوبيين بالانتقالي، وخلق انطباعا خارجيا عن فشله الذريع في العمل الإداري والمؤسسي.
المسار الثاني يتمثل في ترك الحكومة للجانب العسكري والأمني، وبالذات في مجال مكافحة الإرهاب، بينما تحملت القوات الجنوبية المسؤولية، ودخلت في حرب استنزاف طويلة المدى، سقط خلالها عدد كبير من الشهداء الجنوبيين، وما تزال المعارك على اشدها في أبين وشبوة، وسيكون لها تبعات كبيرة على القوات الجنوبية مستقبلا.
المسار الثالث يتمثل في الإذعان الجزئي المقصود من قبل الحكومة لبعض المطالب التي يقدمها الانتقالي، وهي في الغالب تتعلق بالإيرادات والضرائب المتأتية من الموانئ والصناديق الإيرادية في محافظة عدن وغيرها من المدن الواقعة تحت قبضة الانتقالي، مضاف إليه 150 مليار ريال خصصتها الحكومة للانتقالي شهريا، فضلا عن تمرير بعض قرارات التوظيف في مراكز مختلفة في الدولة، وهذا الأمر مكن الانتقالي من التغول جنوبا، وخلق شعورا عاما بالظلم على الجنوبيين غير المنتمين للانتقالي الذين حرموا من حقهم الطبيعي في التوظيف، والعمل، والمشاركة في السلطة.
وفي المحصلة اعتمد المجلس الانتقالي على استراتيجية القنابل الدخانية التي يفجرها بين الحين والآخر في وجه الحكومة، لكي يمرر بعض القرار، ويقاسمها أموال الدولة، دون أدنى أحساس بالآثار والنتائج التي لبدت الأجواء العامة بالأدخنة القاتلة، وخنقت حياة الناس بالكثير من المشاكل والأزمات.
في المقال القادم سوف نستعرض مظالم الناس في الجنوب جراء اتباع الانتقالي سياسة التهميش والاقصاء للمخالفين لسياسة فرض الأمر الأمر الواقع مستخدما نفوذه العسكري والمالي.